أحمد عبد القادر مُحمَّد أحمد

الفكرة الجمهورية والإصلاح الديني

شارك الخبر

شهدتُ الندوة التي أقامها د. أحمد المصطفي دالي عقب عودته إلى السودان بتاريخ 18 أكتوبر بعنوان “الفكرة الجمهورية وضرورات الإصلاح الديني” والتي استعرض فيها ثوابت الفكرة الجمهورية، وقال باستمرار صلاحيتها لمُخاطبة واقعنا المُعاصر، ودعا الناس لاعتناقها نشداناً لحُلُول مُشكلات السودان والعالم. هي إذن أيديولوجيا مُكتملة تنتظر التحقيق والتطبيق بغير تغيير يعتريها.
وقد جاءت أسئلة الشباب في الندوة مُغايرة لما سبق مِمّا عرفه الجمهوريون، فهي أسئلة لا تشابه الأسئلة القديمة، تلك التي انحصرت في شخص محمود محمد طه: صلاته وموته. فقد سألوه عن تطوير الفكرة وعن ضَرورات تجديد خطابها لمُجابهة واقع جديد ومخاطبين حديثين وعن قابليتها للنقد. تلك أسئلة جديدة قابلها الأستاذ دالي ببرود وخطاب ثابت؛ نفس الروشتة لعلل مختلفة فرضها واقع اليوم. وكان أكثر ما قاله دالي غرابةً هو أن الفكرة غير قابلة للنقد فهي صحيحة 100%. هذا ما لم يعد مقبولاً في عالم اليوم الذي يذخر بالمتغيرات والنسبيات، فلا فكر مطلق الصحة وكل شئ قابل للنقد والفحص على ضوء الانفجار المعرفي الراهن. وما كان صحيحاً بالأمس صار مشكوكاً فيه اليوم. فالشك أصبح السمة الأبرز للعقل المعاصر وسقطت كل الأيديولوجيات وأصبحت العقلانية العلمية هي التي تسود. ولقد قال الدكتور النور حمد قبل عامين في لقاء إذاعي إن الفكرة الجمهورية لم تصل إلى رؤية نهائية ولم تقل بذلك. وهذا يعني أنه ليست هناك نهائيات في الفكر الاجتماعي وليس من مطلقات.
لقد آن الأوان لكل التيارات الفكرية أن تخضع لعملية مراجعة، وأول شروط تلك المراجعة فتح الباب على مصراعيه لكل الآراء ونبذ الدوغمائيات. فصحيح أن الجمهوريين هم أكثر من أشرع أبواب الحوار الشامل، إلا أنه من الواضح أن كل تلك الحوارات التي خاضوها لم تفلح في زحزحة الفكرة قيد أنملة عن منصتها الراسخة، ولم تُحدث أيِّ تغييرات جوهرية أو ثانوية في الفكرة، كأنهم أرادوا من الحوار أن يغير خصومهم لا أن يتغيروا هم. لكن الحوار هو أن تؤثر في الخصم، وأن تتأثر أيضاً، فلا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة. حتى الذين أحدثوا تغييرات في الفكرة من الداخل لم يعد معترفاً بهم.
ولقد ذكر د. دالي، في ردّه على المناقشين، أنه كيف له أن ينتمي لفكرة ليقوم بنقدها وتعديلها. فهو إما ينتمي لفكرة كاملة أو فليدعها. هذا يفتقر للمرونة والعقلانية. فالناس تنتمي في عالم اليوم للأفكار نسبية الصحة والتي تسمح لهم بأن ينتقدوها ويشاركوا بفعالية في تعديلها وتصحيحها. وأما الأفكار المطلقة فكيف لهم أن ينتموا إليها إن كانت غير قابلة للتعديل. وقديماً أسقط الأستاذ محمود – ومن بعده د. الترابي – حدّ الردة، فكيف للإنسان أن يدخل مدخلاً لا يعرف كيف يخرج منه. الأفكار المعاصرة هي تلك التي يساهم الفرد العادي في تطويرها وترميمها المستمر على ضوء مستجدات الواقع ومستحدثات العصر وحالة الانفجار المعرفي الراهن. نعم فالوثوقيات النهائية لم يعد لها مجال في عالمنا هذا.
لقد سمعت سنة 1982 من دالي نفسه: “على الناس أن يقبلوا الفكرة الجمهورية الآن، وإلا صارت متخلفة بعد حين”. حقاً، لقد حدثت في عالمنا الراهن انقلابات درامية خلال الأربعين سنة الماضية، على كافة المستويات الفكرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية، فهناك العولمة التي أحدثت من التغييرات في العالم ما لا يحتاج لبرهان، وهناك التغييرات التكنولوجية التي أحدثت ما لم يحدث منذ بدء الخليقة، وكذا المستجدات العلمية الهائلة، وكذلك فإن وسائط التواصل الاجتماعي قد فجرت حوارات واسعة ونزعت القداسة عن كثير من المسلمات، ولا يمكن للفكرة الجمهورية أن تلوذ بحصنها المنيع دون هوج الرياح من التحولات العالمية والمحلية. وإذا كانت الفكرة تؤمن بتطور الكون كله بطبيعته ومجتمعاته وشرائعه، فكيف لها أن تقف خارج الكون مُستعصمة عن أيِّ تطور.
وإن كانت الفكرة الجمهورية قد حاولت تحرير العقل المسلم من المسلمات الموروثة وجمود فهم النص، إلا أنها عادت لتكريس التسليم بنصوص أخرى في ظل عالم يموج بتيارات فكرية وعلمية، ولم يعد هناك من ثوابت تنأى بنفسها عن مبضع التشريح، ولا أقول مدية الجزار. لقد استقال العقل الجمهوري منذ يناير 1985 ولم يعد يقدم جديداً في الفكرة بل صار يسترجع نفس النصوص. وأية سلطة مرجعية فكرية ثابتة مهما كانت صحيحة فهي ذات أثر سالب على أتباعها، فالفرع لا يمكن له مطابقة الأصل. وتبعية الفرع للأصل تهمشه وتلغي فعاليته فلا تطور في ظل تبعية، فلا بُدّ من استقلالية التفكير.
أهم ما قامت به الفكرة الجمهورية هو كسر احتكار تفسير النصوص المؤسسة في الإسلام وفتح باب التأويل. لكن أهم سمات نظرية التأويل المعاصرة أنها تقول بانفتاح النص على عدد لا نهائي من الدلالات والمعاني. ولا يمكن قبول أن تعيد الفكرة الجمهورية احتكار فهم النص مرة أخرى. فإما أن تكون ضد الاحتكار مطلقاً، وإما أن تكون ضد المحتكرين لتكون محتكراً أوحد. ولقد جاء في سؤال لأحد الشباب عن لماذا يضع الجمهوريون الأستاذ محمود كسقف للتأويل، ولا يتجاوزون هم أنفسهم ذاك السقف.
مشكلة الفكرة الجمهورية في أنها ترزح تحت نموذج – سلف آخر تمارس إزاءه نوعا من التقليد والاقتداء في مقابلة وتجافٍ مع الواقع وما يتطلبه من حاجات. ولذا تكون المرجعية الأصل لا الواقع الذي يفترض أن تواجهه وتجيب على مشكلاته. مشكلة الفكرة الجمهورية تتفاقم وتستفحل فتنتج عوائق معرفية أمام تطور هذا الفكر وأمام إمكانية إجابته عن معضلات العصر والواقع. وهناك تكون مشكلة أيديولوجية تتلخص في فقدان التحليل الموضوعي للواقع، وذلك نتيجة لعلاقة التبعية التي تشد هذا الفكر إلى مرجعية فتحوله إلى خطاب هدفه الانتصار لتلك المرجعية معرضاً عن الواقع وعن الحاجة إلى تحليله كما هو موجود موضوعياً.
لقد احتوى البرنامج الاجتماعي السياسي الجمهوري على المساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمعنى الديمقراطية والاشتراكية والمساواة بين الجنسين على التوالي. وهو برنامج مبنيٌّ على تلقي معارف كفاحاً عن الله. أما الديمقراطية فقد ولدت في الغرب منذ منتصف القرن السابع عشر حتى وصلت قمة تطبيقها في القرن العشرين ثم انتشرت في بقاع مختلفة في العالم. وأما الاشتراكية التعاونية فقد صاغها المفكر روبرت أوين ولم تحظ بالتطبيق حتى الآن. أما المساواة الاجتماعية فقد طبقها الغرب حتى اشتط في تطبيقها، بل صار هناك تمييز لصالح المرأة. وعليه فقد صار البرنامج الجمهوري متخلفاً عن ركب العالم كثيراً، بل لم يكن من جديد في الفكرة الجمهورية مختلفاً نوعياً عن ما تم التوصُّل إليه في الغرب ونجح في تطبيقه. كل ما قامت به الفكرة الجمهورية أنها حاولت أن تجد أصلاً لكل تلك النظم التي استقرت عالمياً في الموروث الإسلامي. تلك نظم وجدها الجمهوريون في الفكر والتاريخ الغربي فحاولوا إيجاد نظائر لها في الإسلام، هذه هي النظيمة التي تحكم كل الفكرة الجمهورية. وكما قال المفكر العربي محمد عابد الجابري سابقاً: “ما من فكرة عرفانية يدعي العرفانيون الباطنيون الحصول عليها عن طريق الكشف أو الرياضة الروحية أو قراءة القرآن، إلا ونجد لها أصلا في الموروث العرفاني الهرمسي السابق للإسلام في الهند وفارس… لا جديد تحت الشمس”. هذا يفترض اجتهادا جديدا داخل الفكر الجمهوري ليحاول ايجاد مخارج للمعضلات القائمة في عالم اليوم، والتي فشل العالم في إيجاد حل لها، مثل الفجوة الواسعة بين العالم الغني والعالم الفقير، ومشكلات البيئة وقضايا المعرفة وطرائقها.
أرى، في التحليل النهائي، أن الدولة الجمهورية – في تصورها النظري – دولة ثيوقراطية، فهي لا تقوم على اختيار الحاكم بواسطة الأمة كما في تصورات أخرى للدولة الإسلامية، بل تقوم على حاكم محدّث من السماء يتلقى كفاحاً عن الله. هي ليست دولة زمنية يختار الناس فيها حاكمهم ويخضعونه للمساءلة والمُحاسبة وفق شروط دنيوية، إن كانت إسلامية أو علمانية. فمن الحقائق الراسخة في عالم اليوم نزع القداسة عن أي حاكم وتعريته تماماً أمام الرأي العام. هذه أهم مرتكزات النظام الديمقراطي، وإلا سنعود للحكام ممثلي الله في الأرض أو القول بالحق الإلهي للملوك.
كما أنني وجدت في الفكرة الجمهورية نزعة تكفيرية، فقد ورد فى مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب الجمهوريين الأم “الرسالة الثانية من الإسلام” ما يلي: ((إما أن يكون الإسلام، كما جاء به المعصوم بين دفتي المصحف، قادراً على استيعاب طاقات مجتمع القرن العشرين فيتولى توجيهه في مضمار التشريع، وفي مضمار الأخلاق، وإما أن تكون قدرته قد نفدت، وتوقّفت عند حد تنظيم مجتمع القرن السابع، والمجتمعات التي تلته مما هي مثله، فيكون على بشرية القرن العشرين أن تخرج عنه، وأن تلتمس حل مشاكلها في فلسفات أخريات، وهذا ما لا يقول به مسلم)). أي أنه نفى الإسلام عن كل من يلتمسون حلاً لمشكلات المجتمع في الفكر الحديث.
أكثر إيجابيات الفكرة الجمهورية هي محاولتها أن تدخل روح العصر في الموروث الإسلامي، أو فلنقل اجتهدت في تجديد الفكر الإسلامي ليواكب العصر والحداثة، لكن كل ذلك في انتظار من يأتي ليحقق كل ذلك. والمتأمل لعالم اليوم يجد أن الجهد البشري قد أفلح، بواقعية وعقلانية، في إخراج كثير من الأمم في أوروبا وآسيا وأفريقيا من حالة التخلف والفقر والجهل إلى حالة التنمية والتقدم، دون أن ينتظروا مجئ إنسان كامل أو عودة مسيح محمدي، فزماننا هذا ضنين بالمعجزات. هناك إمكانية كبرى لإخراج السودان من وهدته الراهنة إلى النهضة الشاملة بناء على العلوم الحديثة والتجارب التنموية المُعاصرة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.