سجال بين كتاب وكتاب!

الدكتور الخضر هارون

على شاكلة برنامج ثقافي عالي الجودة، عظيم الفائدة من إنتاج تلفزيون الأردن يسمى (محاكمات أدبية) كانت تقدمه النجمة الإعلامية ليلى رستم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عقدت منظمة (انتلجانس ٢، عالم المناظرات أو , Intelligence2, The World of Debate); مناظرة رائعة بين روايتين عظيمتين لعلمين من أعلام القرن العشرين من الأدباء الروائيين والمفكرين هما : البريطاني ألدوس ليونارد هكسلي (١٨٩٤-١٩٦٣) وروايته (عالم شجاع جديد) كتبها عام١٩٣١تم نشرها في العام ١٩٣٢ وجورج أورويل (ذاك اسمه الأدبي) فاسمه الأصل : أريك آرثر بلير وهو بريطاني أيضاً ولد في الهند عام ١٩٠٣ ومات في يناير ١٩٥٠ . وكتابه المعني هو (١٩٨٤) ويعني به العام الميلادي والذي كتبه عام١٩٤٨ ونشر عام ١٩٤٩. وجورج أورويل هو مؤلف كتاب (مزرعة الحيوان) أيضاً، أكثر الروايات الرمزية انتقادا لتطبيقات الفكر الماركسي. ويجمع بين الرجلين إيمان عميق بالقيم الديمقراطية والحرص على ألا تنزلق بلدهما والبلاد الأخرى إلى أتون الشمولية وتحكم الأقلية (الأليغاركية). وقد توقعا ذلك كل منهما بطريقة مغايرة كما سنرى. وفي لقاء تلفزيوني لأدوس هكسلي عام ١٩٥٨ مع النجم الإعلامي الأمريكي المعروف مايك والاس قرظ هكسلي كتاب جورج أورويل، ١٩٤٨ رغم أن النقاد يعتبرون أن أورويل استمد فكرة كتابه من كتابه هو،(عالم شجاع جديد) .
والإحاطة بمحتوى الكتابين ليست من أغراض هذه المقالة سيما وقد سبق لي أن استعرضت الروايتين بإيجاز في مقالة لي نشرتها سودانايل في ٢ نوفمبر عام ٢٠١١ وربما يومية السوداني أو الرأي العام بعنوان (العالم إلي أين؟) في ظروف من الإضطراب العالمي كالذي نعيشه الآن مع فيروس كرونا، ولكن فقط نعطي القارئ ملمحاً سريعاً عن الروايتين هنا ليعينه على متابعة هذه المناظرة الأدبية الفكرية الرائعة. رواية هكسلي تتوقع عالما تصنعه التكنولوجيا المتقدمة في المستقبل مسرح وقائعه وأحداثه وسط لندن حيث يولد أفراده وفقاً لتكنولوجيا الهندسة الوراثية المتقدمة كما لو كانوا يخرجون من (فقاسات اصطناعية) في زجاجات تشابه الأرحام وهم من طبقات خمس أعلاها وأذكاها (الألفا)ثم (البيتا) وبقية الطبقات الثلاث الأخرى:(قاماس)، (دليتاس) و(إبسلون) أقل حجماً من حيث الخلقة في شبه القردة العليا وأقل ذكاء يخرجون من الزجاجات مثل ما تخرج السيارات في خطوط الانتاج بأعداد كبيرة . وهذه الطبقات الثلاث الأخيرة مدخرة للأعمال الأقل أهمية الوضيعة في المجتمع الشجاع الجديد.
هذا المجتمع متحكم فيه بشكل كامل تحت نسبة أوكسجين أقل للتحكم في ذكائه وهو مستنتج بطريقة تشبه الاستنساخ بحيث يتطابق أفراده بنسبة ٩٦ في المائة وبالتالي فسلوكه يمكن التنبؤ به مسبقاً. أدوات التحكم تمنع أي شعور ذاتي مستقل للأفراد فهناك المدرسة المنوِمة توالي بث الأفكار للطبقات بحيث تشعر كل طبقة بالقناعة والسعادة والرضا بما هي فيه وإلى جانب ذلك هناك شراب مخدر كالكحول اسمه (سوما) يتعاطاه أفراده كلما أحسوا بالضجر والتعب والرتابة لا يسبب آثاراً جانبية كالصداع وغير ذلك. وهذا العالم الشجاع مجتمع إباحي لا يعرف الزواج والحياة الأسرية فالحرية الجنسية الإباحية هي وسيلة إفراغ وتحقيق هذه الرغبة الغريزية وبلا قيود. ومحظور في هذا المجتمع كل ما من شأنه خلق كينونة فردية غير كينونة المجتمع. الأطفال منذ الصغر تربوا على تخويف من حب الطبيعة، الزهور والورود والكتب بالصقع الكهربائي وتحذيرات بأصوات تنبعث من أجراس، فالكتب تنمي التفكير الفرداني المستقل وأبدلوهم بذلك حب الأدوات الرياضية والطائرات لأن حب الكتب والطبيعة لا يفيد الاقتصاد في شيء. هذا المجتمع سعيد جدا بما هو فيه، لا يوجد دين إلهه فورد إذ يرى بعض النقاد أنه هنري فورد رائد صناعة السيارات ففكرة صناعة البشر آلياً في خط الإنتاج أول من ابتكرها هنري فورد في صناعة السيارات بأعداد ضخمة وتلك بداية ما يعرف بالإنتاج الكثيف، Mass Production وكانت أول سيارة تحمل الحرف T وقد استخدم هكسلي في روايته الحرف T للأفراد. يقول أحد النقاد إن إله هذا العالم الشجاع هو مزيج من هنري فورد في الإنتاج الكثيف للبشر وادموند فرويد عبر التحكم الإيحائي في عقول ساكنيه. يوجد عالم بالتزامن مع هذا العالم هو عالم الهمج المتخلفين وهم قوم يشبهون الهنود الحمر لا يزالون يتزوجون ويعيشون في حضن الأسر ولهم آلهة كما مجتمعات اليوم، أُكره بعض سكان العالم الشجاع على اللجوء إليه. هذا عالم تتحكم فيه التكنولوجيا المتقدمة والإعلان الدائم لتسويق المنتجات. يشير هكسلي في لقائه مع مايك والاس عام ١٩٥٨ إلى التأثير السلبي للدعاية والإعلان على الديمقراطية فالمال وبراعة الدعاية التي تستخدم التكنولوجيا هي التي تحسم نتائج الانتخابات بطريقة لا تجعل لكفاءة المترشحين وقدراتهم دوراً في الاختيار .
وتسمية هذا العالم المشوه بالشجاع ممعنة في السخرية فقد أخذها هكسلي من مسرحية شكسبير (العاصفة) حيث ظنت (مارنديا) في رجال أشرار حلوا بالجزيرة حيث كانت بأنهم أخيار شجعان! ويقول إن العالم قد غدا في تكنولوجيا مزمنة يلهث خلفها لترتيب حياته وفقاً لذلك. أما رواية أورويل فمسرحها لندن كذلك وبطلها وينستون اسميث الشاب الذي يعمل في وظيفة صغيرة في دوائر الحزب الحاكم غير المهمة وقد تضجر وتمرد علي تدخل (الأخ الكبير المتسلط) في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس بالتجسس الدائم عبر التلسكوب وسعى الحزب لتغيير التأريخ واللغة ومحاربة كل نافذة تفضي لفكر غير فكر الحزب المتسلط. وبدأ يكتب يومياته ثم لجأ لأحد كبار الحزب اسمه أوبراين خدعه بأنه مثله معارض ويعمل سراً في حزب الإخوة المعارض. تم القبض عليه وتم تعذيبه على يد أوبراين نفسه.
نتيجة الروايتين واحدة مع اختلاف الطريقة. طريقة أورويل الهدف منها التحكم المطلق للأقلية الحاكمة على الناس بالقهر والتعذيب وإغلاق كل منافذ التفكير الحر. وطريقة هكسلي في الرواية تفضي لذات النتيجة بمخلوق متحكم في فكره بالملذات والتخدير وهو سعيد راض بذلك يتوهم أنه سعيد رغم أنه يعيش على الأدوية وعقاقير الاكتئاب ومضلل بالدعاية ينفق بغير حساب على كماليات لا يحتاجها أصلاً. أدار السجال السيد جوناثون فريدلاند وقدم الروائي البريطاني وهو ناقد أدبي وإعلامي (ويل سلف Will Self) ليتولى الدفاع عن رواية ألدوس هكسلي باعتبار نبوءاتها في التحقق هي الأقرب لراهن العالم اليوم. وتولى الدفاع عن رواية جورج أورويل، الروائي الأمريكي وهو كذلك ناقد أدبي وإعلامي معروف آدم قوبنك Adam Gopnik. ونعطي صورة للصيغة التي تمت بموجبها هذه المناظرة حول الروايتين. تمت في قاعة كبيرة تضم نحو ألفين وخمسمائة شخص في مدينة لندن. جلس على المسرح رئيس الجلسة، الذي يدير المناظرة، وجلس على يمينه(ويل سيلف) وعن يساره (آدم قوبنك). وجلس على يمين القاعة على المسرح وعلى مسافة من المنصة أربعة من كبار الممثلين المعروفين في بريطانيا ليقوموا بتمثيل بعض الأدوار المنصوص عليها في الروايتين دعماً لوجهة نظر المتناظريْن ووفقاً لطلبهما. منحت خمس وعشرين دقيقة لكلا المتناظرين لتبيان أن الرواية التي ينافح عنها هي الأقرب لواقع البشرية المعيش اليوم. ابتدر المرافعات ويل سيلف تفضيلا لرواية هكسلي بالقول إنه رضع حب روايات هكسلي مع لبن أمه ثم تمنى على الحضور أن ينزعوا عن أنفسهم رداء التحيز كما يتمنى تحقيقاً لذلك أن يكونوا قد قرأوا الروايتين قراءة كاملة قبل التصويت عليهما. وقال إنه يتشكك في أن الناس في بلده يتعاطفون بطريقة طبيعية مع جورج أورويل وأنه يريد ابتداء أن يهشم هذا التعاطف، والذي سببه أن اليمين في بريطانيا يجل الرجل باعتباره قد قلب للفكر الاشتراكي الذي كان ينتم إليه، ظهر المجن وصوب سهامه إلى الإتحاد السوفيتي. ويجله اليسار أيضاً باعتباره يساريا ليبراليا سكن في باريس وظل يكتب نقداً للإمبريالية العالمية ويكتب روايات عديدة تحمل صوراً للحياة التقليدية في بريطانيا في تلك الحقبة من الزمن، مشيراً إلى مفتتح كلمة غريمه آدم قوبنك الذي قال إن الذي جذبه لرواية جورج أورويل عندما كان مراهقاً يعيش في كندا، وصفه للجنس والنبيذ في تلك الرواية، كأن روايات البريطانيين لم تكن تخلو من ذكر ذينك الأمرين في أربعينيات القرن العشرين. يريد أن يخلّص الحاضرين من هذه الاعتبارات التي قد تنأى بهم عن الحيدة والنصفة وذلك عند التصويت على الروايتين في آخر المنشط كما وعد منظم المناظرة . ثم خاطب الحضور: عندما يتعلق الحال وتنعقد المقارنة بين حالنا اليوم وبين حالنا عام ١٩٤٨ لا أجد رواية ١٩٨٤ هي المماثل المناسب لحالنا الآن في عام ٢٠١٧ فهي رواية عبارة عن هجمة سياسية تنبأت بحال المجتمع في الاتحاد السوفيتي. ثم وجه السؤال للحضور: هل تبدو لكم بلادنا قريبة من أجواء حرب عالمية مضت خرجنا منها للتو لنستقبل إرهاصات حرب عالمية أخرى تلوح في الأفق بسبب أن العلاقات بين الدول الكبرى وصلت إلى درجة الصدام مثلما تنبأ جورج أورويل عام ١٩٤٨ أم أن الحال أشبه بأعوام الكساد التي عاشها هكسلي ثلاثينيات القرن المنصرم، هبوط مريع في أسواق الأوراق المالية وفئة قليلة معزولة في جنوب شرق البلاد (يعني انجلترا) منعمة تعيش نسبياً بحبوحة العيش بينما يحصد الحرمان والتعاسة المناطق الأخرى؟ هنا دعا الممثلين لتقديم صورة حية من الكتاب تصور مخطط جعل المادة وعملية الربح وجمع المال تعلو على غيرها وكيف يتحول المجتمع إلى مستهلك حيث تمت برمجة الأطفال بالتخويف بالصقع الكهربائي وبأصوات الأجراس على كراهية الكتب والزهور حيث لا فائدة منها للاقتصاد . قال مخاطباً الحضور .هكسلي أدرك أنه في الاقتصاد القائم على الاستهلاك والإعلان والدعاية يصبح كل إنسان مستكيناً في خدر يخلط في عقله بين احتياجاته الضرورية ورغائبه . أنت لا تحتاج أن تكون ماركسياً لتدرك أنك مجرد سلعة وأنك مبرمج. يقول أنتم الآن تغلقون هواتفكم الذكية وتضعونها في موضع الطيران كي لا يشوش عليكم الهاتف الجوال الذي أصبح كالصاعقات الكهربائية عند عالم هكسلي الشجاع حيث يخوف بها الأطفال من القراءة والكتب التي لا تفيد الاقتصاد في شيء.
هذه الهواتف لا تترك لكم ساعة واحدة من ليل أو نهار، تطاردكم بالتحكم والإعلان وتشعرون بسعادة بالرجوع الدائم إليها في كل حين وتمنحكم حين ترن إحساساً بالرضا كما تقول آخر ما توصلت إليه العلوم المعرفية. الفرق بينكم وبين أطفال عالم هكسلي المتحكم فيه بالصعق الكهربائي أنكم في حالة يقظة أي أنكم تحلمون حلم اليقظان . أنتم من طبقة (الفا،وربما على أقل تقدير من طبقة البيتا) المتميزتين بالذكاء لذلك تمردتم على هذه الصاعقات الكهربائية (الهواتف الجوالة)وجئتم إلى هنا ودفعتم قيمة حضور هذا المنشط، وفي هذا المكان المميز من المدينة ولا أحسب أن أحداً من الطبقات الثلاث الأقل ذكاء قد قدم إلى هذه القاعة !
(ضحكت القاعة) .عليكم تنوير من سيقومون بتنظيف هذه القاعة بعد انتهاء هذا المنشط فالذين سيقومون بذلك مثل أولئك(الطبقات الثلاث المدخرة لوضيع الأعمال في العالم الشجاع). قال لقد تنبأ هكسلي بما نحن عليه اليوم من إحلال الآلة محل الإنسان . معظم الناس لا يؤدون عملا حقيقياً حتى أنتم وأنا وآدم هذا أبلغ مثال على ذلك، قال. .ثم أشار إلى الإباحية الجنسية بتمثيلية أداها الممثلون تحكي من كتاب هكسلي عن قصة الفتاة لينينا التي تعشقت شاباً من عالم الهمج المتخلفين اسمه جون (كانت أمه تعيش في العالم الشجاع لكنها أخطأت بأن حملت فأخرجت لتلد جون هذا في محتشدات الهمج المتخلفين) تريد أن تقضي وطرها منه فظل يحدثها عن فضيلة الزواج في مجتمعاته المتخلفة وأن الرجل يرتبط بالمرأة ارتباطاً دائما. لكن الفتاة الشبقة ظلت تتعقبه وتراوده بحثاً عن المتعة لا تلو على شيء سواها،وتقول لا أفهم شيئا مما تقول . وبعد الفهم تقول : ذاك (أي الزواج)وضع رهيب شائه ومتخلف ! ثم يتحدث المدير عن عالم الشجعان هذا بأن كل شيء مباح ومتاح الآن فلا سبب للقلق والاكتئاب والشعور بالحرمان. يكمل السيد ويل مرافعته بالتوجه للحاضرين بالقول، قد تقولون لا نعيش الآن إباحية كهذه ولكني أذكركم بالأفلام الإباحية المنتشرة في الإنترنت والمجلات قد لا يشاهدها كل فرد منكم لكنها موجودة ومتاحة كالمخدرات المنتشرة في الغرب عبر الإحصائيات المرعبة. نحن نعيش وهما تصنعه هذه النسخة المتأخرة من الرأسمالية . تقولون ربما نحن نعيش السلام ولا توجد حروب بينما الحروب تدور خارج بلادكم ثم عدَد أعداد القتلى والمشردين في العالم في الكنغو. قال مات هناك خمسة ملايين كي يوفروا لكم المواد الخام التي تصنع منها هذه الهواتف الذكية وماتت أعداد في العراق واليمن. يقول إن الدعاية والتكنولوجيا تقتل الشعور المدني الإنساني لديكم فلا تشعرون بأهوالها عندما تكون في بلد آخر.
آدم قوبنك بدأ مرافعته بأنه كان هكسلي الهوى حتى بداية القرن الحالي بل وحتى منذ عقد مضى أو خمس سنوات فهكسلي يصور وقتاً نصبح فيه بفعل بحثنا الأعمى عن المتعة عباداً لغرائزنا ورغباتنا . لكن ما حدث بوصول شخصية مثل بوتن في روسيا وازدهار الوطنية البيضاء (المتعصبة) في المجتمعات الغربية وفوز دونالد ترامب في بلدي أمريكا، قد حول انتباهي لجورج أورويل وكتابه العام ١٩٨٤ .
إن هذه الظواهر دلالة واضحة لتنبؤات جورج أورويل أكثر منها على دقة تنبؤات هكسلي . إننا نعيش زمن الحكومات المتسلطة غير الديمقراطية وقد عبر عنها بوضوح جورج أورويل غايتها السيطرة بالقوة علينا بغرض السيطرة نفسها وهي تستعين على ذلك بطرق ثلاثة : هي أولاً إفساد اللغة وتغيير معانيها حتى ينعدم الجدال الديمقراطي بيننا وهو أس الحياة الديمقراطية وهنا دعا الممثلين لتبيان ذلك بمقتطف من كتاب أورويل : يحادث فيه أوبراين وينستون اسميث في اللغة يشير فيها إلى أن اللغة لابد أن تنقح ففيها أفعال وصفات زائدة لا معنى مثلا كلمة جيد تحمل في طياتها معنى سيئا فلا داعي للأخيرة وكذلك المترادفات حسن وأحسن وممتاز يمكن القول إن الشيء جيد وزيادة أو جيد مرتين أو ثلاث والتخلص من المترادفات. هذه العملية تضبط التفكير وتمنع وجود جرائم فكرية . في العام ٢٠٥٠ لن يستطيع أحد فهم الحوار الذي يجري بيننا الآن وكل المكتوب عن الأدباء العظام، شكسبير وغيره سيكون أثراً بعد عين. يعلق آدم بالقول إن ذلك جلي وواضح تسهل مهمته وسائط التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) ويشير هنا إلى الرئيس ترامب الذي يستخدم التويتر وهو وسيط يتيح لك عدداً محدوداً من الكلمات وهذا مريح لسلطة متسلطة لا ترغب في الحوارات الفكرية التي تتيح تلاقح الأفكار وتعدد الخيارات. ثانياً : ستستعين الطغم الحاكمة المتسلطة لإلهاء الناس بإثارة الكراهية . ألا ترون ذلك يحدث الآن ؟
إثارة الكراهية ضد الآسيويين في الشرق الأقصى أو في أوروبا الشرقية ثم ضد المسلمين وضد المكسيك. هذه وسيلة للسيطرة علينا بتوجيه غضبنا وكراهيتنا للغير وذلك يستلزم تشويه التأريخ أو نسيانه بالكامل. ثالثاً أو الوسيلة الثالثة للنظم المتسلطة هي حيازة السلطة من أجل السلطة وحدها، و بلا أي ايدولوجية أو حتى كذبة على الناس كمسوغ، فقط التسلط والقمع لذاتهما . لخصها الممثلون على لسان أوبراين وبوقاحة متناهية وهو يخاطب وينستون اسميث: إن الحزب يسعى للسلطة من أجل السلطة،نحن لسنا منشغلين بعمل الخير للآخرين نحن نعنى فقط بالسلطة لأجل السلطة فقط وليس للثروة والرفاه وطول العمر أو السعادة .السلطة من أجل السلطة المطلقة فقط. ما هي السلطة؟ نحن نختلف عن الأنظمة المتسلطة الأخرى حتى الذين يشبهوننا في الوسائل والنظم فقد كانوا جبناء ومنافقين: أولئك هم النازيون الألمان والشيوعيون الروس عندما يكذبون بأنهم لم يكونوا طلاب سلطة وأنهم سيتركونها لاحقاً بعد أن يحققوا الفردوس للناس. الناس لا يستلمون السلطة ليتخلوا عنها فالسلطة ليست وسيلة بل غاية في حد ذاتها فأنت لا تقيم السلطة لحماية الثورة بل تستحوذ على السلطة لإقامة الديكتاتورية. الغرض من الهيمنة والتسلط على الناس هو التسلط والغرض من التعذيب هو التعذيب عينه والغرض من السلطة هو السلطة. ثم يقول لوينستون هل تفهمني الآن؟ السلطة ليست السلطة الخارجية على المادة فنحن نهيمن تماماً على القوة المادية، السلطة ليست سلطة على الأشياء بل التسلط على الرجال. ثم يسأل وينستون مجدداً كيف يتسلط الرجل على الرجل ؟ يجيب وينستون بأسى: بأن يجعله يعاني! فيقول أوبراين بسعادة : بالتأكيد بأن يجعله يعاني. الإذعان وحده لا يكفي. كيف تعرف أنه يذعن إن لم يتألم ويتعذب. السلطة هي أن تنزل العذاب والمهانة بالرجل. السلطة هي أن تطيح بعقل الآخر وتدمره وتبنيه من جديد كما تشتهي. المصلحون والحضارات القديمة تدعي أنها قامت على المحبة أما نحن فنقيمها على الكراهية. في عالمنا لا مكان للعواطف، فقط هنا الخوف والبغض وتحقير الذات. أي شيء آخر سنقضي عليه، أي شيء.
علق آدم لصالح أورويل: هل هذا هو العالم الذي بشر به هكسلي؟ عالم يستعبدنا فيه بحثنا الأعمى لإشباع غرائزنا ونزواتنا بالماديات والمباهج، أم أن هذا العالم الذي وصفه أورويل هو بذاته عالم بوتن وترامب الذي ينمو بموجة زحف عاتية للنظم القمعية المتسلطة التي تغزو العواصم في هذا الزمن. (على ذات النهج تتخوف مجلة truthdig الليبرالية الإلكترونية من أن يستغل ترامب رعب فيروس كرونا لإعلان الأحكام العرفية وإلغاء الانتخابات ليستمر رئيسا لعهدة أخرى!).
وعندما انتهى الوقت المخصص لمرافعة المنافحين عن الروايتين، كشف رئيس الجلسة أن نتيجة التصويت الأولي حتى الآن كانت لصالح أرويل بـ ٤١ مقابل ٣٥ لهكسلي وعدم تبلور رأي لنحو ربع الحاضرين. ثم طرح سؤالين على الرجلين: رواية أرويل تركت العديد من الكلمات والمصطلحات الباقية حتى اليوم في مفردات استخدامنا دلالة على تأثير تلك الرواية بعد مضي سبعين عاماً على ظهورها: الأخ الكبير (ترمز للمتسلط، حاكماً فرداً أو طغمة)، الجريمة الفكرية وما إلى ذلك. يرد ويل سيف بأن الأخ الكبير هو ما عناه هكسلي لأن الأخ الكبير على أيام أورويل كان واحدا هو فورد صانع السيارات واليوم الشركات متعددة الجنسيات التي تتحكم في العالم وتتهرب من الضرائب وهو ما تنبأ به هكسلي. يتوجه المقدم بالسؤال لآدم صحيح أن مفردات هكسلي ليست متداولة كثيرا لكن نبوءاته في الهندسة الوراثية، والإعلان واختراع موانع الحمل ورواج أدوية الاكتئاب وحمى الاستهلاك الجماعي بسبب الاستخدام السيئ للتكنلوجيا شاخصة وحية في زماننا هذا. يرد آدم لكن الذي نعيشه الآن هو عالم التسلط الذي يتمثل في بوتن في موسكو وترامب في نيويورك. يقول المقدم ألا تلاحظ ما قاله أوبراين في هكسلي من تزوير الحقائق قال نعم كلا الرجلين في موسكو وفي نيويورك يحاربان الحقائق الجلية لكن ذلك، يقول آدم أداة من أدوات القمع والتسلط. يعلق سيلف بأن تويتر مثل قوقل وغيرها هي نتاج التكنلوجيا التي تحدث عنها هكسلي وهي التي تمسك بألباب الناس. لقد حولت الناس لمجرد سلع.
كانت نتيجة التصويت في النهاية لصالح هكسلي بنسبة ٦٥٪ و٤٣ لجورج أورويل وعدم تحديد واحد في المائة من الحضور رأياً في الروايتين.
وبعد…..ولما كان الذي ساقنا إلى الحديث عن المناظرة التي أجريت تفاضل بين هاتين الروايتين، أيهما أصدق إنباء وتنبأ بحال البشرية بعد هذه العقود الطويلة، هو هذا الوباء الخطير الذي أطلقوا عليه اسم كورونا وتعني التاج،فتوج نفسه إمبراطوراً متسلطاً على البشرية بأسرها، جاز لنا أن نقول إن هذا الوباء ربما شكل منعطفا جديداً في تاريخ العلاقات الدولية وطعنة نجلاء في خاصرة ظاهرة العولمة والعالمية وأنه يتعين منذ الآن على عالمنا الفقير أن يعول على نفسه في إنتاج الغذاء الذي تجود به مناخاتنا الحارة في جنوب المعمورة وأن نجتهد في توطين صناعة الدواء، فالسفائن الضخمة التي تجوب المحيطات ساكنة بلا حراك في سواحل بلدانها والطائرات رابضة حيث هي يعلوها الغبار لا تقوى على التحليق مثل الطيور صافات ويقبضن . هذا حسن إن تم، يخرجنا من مهانة المسغبة ومذلة السؤال وانتظار العطايا . وأسوأ منه أن تتداعى علينا الأمم القوية كما فعلت في الماضي بذرائع تصنعها وكالتي أشار إليها (ويل سلف) بأعلاه تصنع بشعب كشعب الكونغو الأفاعيل .
وكلمة خاتمة نقولها في حق الروايتين هي اللتان توضحان بجلاء أن الرواية الناجحة لا يكمن نجاحها في سلاسة اللغة وجمال السرد وجاذبية ما تحمل من وقائع ولكن في المضامين الإنسانية الشاملة التي تشتمل عليها. تأمل هذه الحوارات الجادة التي لا تزال تثيرها الروايتان. حيث لا تزال الروايات في الغرب تتربع على عرش الأدب وتغذي السينما والمسرح ووسائل التواصل الحديثة وتثري الحوارات الفكرية حول مستقبل الإنسان.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.