لبريق الذهب سطوة!

بروفيسور/ معتصم إبراهيم خليل

مقدمة ومضات: مرة أخرى نتشرف بأن يطل علينا البروفيسور معتصم إبراهيم خليل ويتيح لنا الفرصة كي نتزود من غزير علمه وذلك بنثر هذه الشذرات عن موضوع هو الشاغل الآن في الساحة الاقتصادية والاجتماعية في السودان، فالحكومة والشعب كلاهما يبحث عن هذا المعدن الأصفر النفيس، حتى توقف غيره من الإنتاج تماماً! ومن جانب آخر، لم تلفت الجهات الرسمية لما يكتنف التعدين الأهلي من مخاطر أدت إلى وفاة كثير من الشباب دون طائل يذكر.
الكل يبحث عنه والكل يسعى لاغتنائه فلبريقه سطوة. وهو أكثر بهجة ولمعانا وكثافة من أشقائه الفضة والنحاس أعضاء مجموعة معادن العملة. الذهب معدن نبيل مترفع محافظ على نقائه يأبى العلاقة مع من حوله في الطبيعة. ولنبله وندرته فإن مخزونه مؤشر لثراء الدول وزينته دليل غنى الأسر.
وهو قديم قدم البشر فلقد عثر على قطع ذهبية في الكهوف الإسبانية يرجع تاريخها إلى 40000 ق.م. ولمكانته العالية في نفوسهم أطلق نوبة السودان اسم (دهب) و(سوار الدهب) على أبنائهم كناية عن صفائهم ونقائهم وعلو مكانتهم. وسم الفلكيون الشمس ذهبا والقمر فضة والزهرة نحاسا.
وألفت فيه وعنه قصصا وحكايات فقد جاء في قصص ألف ليلة وليلة حكاية حسن البصري الصائغ الذي سار مع بهرام المجوسي إلى جبل السحاب لجلب الإكسير الذي يحول النحاس إلى ذهب . والإكسير هو نفسه حجر الفلاسفة الذي انغمس الأقدمون في هوس البحث عنه لتحويل المعادن البخسة إلى ذهب مستعينين في ذلك بشيء من الروحانيات والغيبيات لتعينهم في نجاح تجاربهم العملية.
كما انغمسوا في هوس النمو المرحلي للمعادن, فأمنوا و وصفوا معدن الرصاص بالطفولة المبكرة للذهب وسيكبر ليصبح فضة ليصل مرحلة الرجولة الكاملة وهي الذهب. وأضاف جابر بن حيان (103هـ-721م) (210هـ-825م) شيخ الكيميائيين طبع الدخان والسيولة لطبائع العناصر الأربعة الهواء والماء والنار والتراب ووضع فرضيته: (كل المعادن تتكون من هاتين الطبيعتين أو الحالتين فإذا وصلتا لحالة الاتزان نتج عنهما الذهب وكل العناصر الأخرى أقل ثباتا من الذهب لعدم تحقيق ذلك الاتزان).
كانت نتيجة ذلك الاهتمام والهوس الجنوني بتحويل المعادن البخسة إلى الذهب ظهور مجموعة من السحرة والدجالين والمحتالين والنصابين خاصة في عهد الدولة العباسية؛ مثلا سار الرازي (240هـ-854م (320هـ-932م) في طريق جابر بن حيان وادعى تحويل المعادن البخسة إلى ذهب فباع بعض الروم سبائك منها وعند وصولهم بلادهم تغير لونها فأعادوها له واستردوا أموالهم. إلا أنه وقع في شر أعماله عندما أهدى الخليفة المنصور كتابه في صناعة الذهب فوفر له المنصور معملا حديثا بمستوى ذلك الزمن ليطبق اكتشافه وينتج الذهب.
فشل الرازي فأمر المنصور بضربه بكتابه حتى يتمزق وقيل أصيب بالعمى جراء ذلك الضرب. وانتقل ذلك الهوس والدجل في صناعة الذهب إلى أوروبا في العصور الوسطى فمارس الكيمائيون شيئا من الدجل في صنع الذهب المغشوش لدرجة أن أصدر البابا جون الثامن والعشرين أمرا بخروج الكيمائيين من أوروبا (1317م) كما صدر في انجلترا عام 1403م قانون إنجليزي بمعاقبة الغش في صناعة الذهب بعقوبة الإعدام. والغش في عيار الذهب يعرف عند صاغة السودان بمصطلح (الرجم) ويعني سباكة الذهب مع النحاس أو الفضة أو الاثنين معا.
أما نحن فقد ورثنا ذلك الشغف والهوس بشكل مغاير تمثل في لغط أحاديثنا الممجوجة والمتكررة والسلبية في مجالسنا وصحفنا ومواقع تواصلنا الاجتماعية سائلين ومتسائلين عن كمية الذهب المعدنة و عن كمية الذهب المصدرة وعن كمية الذهب المهربة دون أن نتلقى إجابة شافية ودون أن نتخذ إجراء أو خطوة إيجابية. فكما شغل هوس صناعة الذهب وحجر الفلاسفة الأقدمين عن البحث العلمي الجاد فتعطلت مسيرتهم العلمية فإن انغماسنا في اجترار سيرة الذهب ألهانا و أنسانا السؤال عن معدننا الاستراتيجي – اليورانيوم-الذي يفوق سعره المائة ألف دولار لكيلو الخام المحتوي على 93% من(U235O2) أكسيد اليورانيوم 235.
لم نسأل عن إنتاجه ولا عن تصديره ولا عن تهريبه ونهبه الأكيد فقد عرف عنه سارقوه منذ القرن الماضي ودليلي أن من أشرف على رسالتي لدرجة الماجستير بعنوان: (فصل اليورانيوم والثوريوم والعناصر النادرة من خام المونزيت بطريقة التبادل الأيوني) سويدي الجنسية جلب عينة المونزيت من حفرة النحاس. فهل كممت أفواهنا عن سيرته الاستراتيجية؟ ولماذا سكتنا عن وأغفلنا السؤال والاستفسار عن كمية وصادر النحاس والفضة والمنجنيز والبلاتين شقيق الذهب؟ وماذا عن البلاديوم والتانجستن أم خطط لنا الانحباس والتقوقع داخل هاجس الذهب؟ ولماذا تمايلنا رقصا ونشوة مع أغنية عثمان الشفيع: (رملتنا البيضة بين بحرين يلاك نزورا) فاكتفينا بزيارتها ولم نفكر وندرك قيمة رمالنا (السليكا) الاقتصادية. فكم وبكم صدرت ولاية كردفان منها؟ فهل يتبرع مسئول فينور هذا الشعب المنهوب والمخدوع والمغيب عن ثرواته المعدنية؟ وأخيرا أسأل: هل وزارة التعدين هي وزارة الذهب؟

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.