“هذا بيت الجاك”.. الرسالة (7)

في هذه الرسالة، نحاول الإجابة على ما وعدنا به في نهاية الرسالة (6) إن شاء الله.

اتّساقاً مع الحكمة القائلة إنّ “المعرفة تراكمية”، يمكننا القول إنّ الإدارة/Management/ Administration كـ”علم” يدرس ويدرس، بدأ في بدايات القرن العشرين على أيدي عدد من المفكرين، أشهرهم الأمريكي/ فريدريك تيلور (1911) والفرنسي/هنري فايول (1916). بالرغم من تشعب علم الإدارة من ذلك الحين إلا أنّ كل علماء هذا العلم يلتقون في مبدأ واحد:

كيفية حُسن إدارة المنشآت العامّة والخاصّة، بحيث تحقق أهدافها بأقل تكلفة مُمكنة وتضمن استمراريتها وبقاءها.

ابتعثتني جامعة الخرطوم لأدرس واحصل على درجتي الماجستير والدكتوراة في علم الإدارة خلال ست سنوات في The Graduate Business School، أخذت مفردات علم الإدارة على أيدي أشهر علماء ذلك الزمان (أخص من بينهم أستاذي ومرشدي بروفيسور/ هارولد كونتز/Harold Koontz الذي ترجم كتابه: مبادئ الإدارة إلى أربع عشرة لغة من بينها اللغة العربية وذلك في 1968).

 

للحصول على درجة الدكتوراة في UCLA، يشترط معرفة لغتين (قراءة وترجمة)، كما عليك اجتياز امتحان شامل/ comprehensive examination في مجال تخصُّصك من علم الإدارة يستغرق 8 ساعات في يومين وكتابة رسالة تكميلية/ dissertation وامتحان شفاهي/viva. لا تحسبن أنّ هذه محطات للمرور السريع، كلا وحاشا، إنّهَـا رحلة للجادين سعداء الحظ، تستغرق أربع سنوات ثقال.

حقاً وحقيقة أقول إنّ المردود الأكاديمي الذي نلته من سنواتي الست في UCLA كان مُتنوِّعاً وغزيراً، ومكنتي أن أستفيد منه كأساس وابني وأضيف عليه من أبحاثي والاستشارات التي أقوم بها لكي أقدِّمه في مُحاضراتي لطلابي في المستويين الجامعي وفوق الجامعي وبفضله ترقيت إلى مرتبة الأستاذية/ professorship بجامعة الخرطوم في عام 1983 (والفضل من الله من قبل ومن بعد).

 

وكذلك منحتني سنواتي الست في UCLA بالإضافة للمكتسب الأكاديمي، فرصَاً عدة في مجال الفنون الجميلة (الموسيقى والمسرح)، واكتسبت خلالها غراميات وصداقات حميمة.

تعرّفت على وأعجبت وادمنت موسيقى الجاز والموسيقى الكلاسيكية. سافرت في الويكند لأسمع بعض مشاهير الجاز في مدينة لونق بيتش بجنوب كاليفورنيا وساوث بارك بشيكاغو واغتنيت عدة أشرطة تسجيلية لبعض مشاهير عازفي موسيقى الجاز.

أمّـا الموسيقى الكلاسيكية فقد أدخلتني عليها محطة FM الصادحة 24 ساعة يومياً من جهاز الراديو الصغير جنب سير النوم. قرأت عن سيرة مشاهير الموسيقى الكلاسيكية أمثال بيتهوفن وموزارت وادمنت معزوفاتهم التي تسترخي أعصابك وتريح بالك وتأخذك لنوم جميل.

 

أمّـا المسرح، فقد حَضرتَ تمثيليتين The king and I” في مسرح مدينة لوس أنجلوس ومسرحية “Of Mice and Men” في مسرح جامعة أورغون المفتوح، أقنعتني هاتان المسرحيتان أنّ المسرح هو فعـلاً سيد فنون التمثيل.

أمّـا عن العلاقات والصَّـداقات الحميمية العميقة التي اكتسبتها في مجال الدراسة، وفي فريق كرة القدم، وفي مكان السٌّكـن، يُمكنني أن أذكر بعضاً منها الآن، أولاً صداقة مع الكاتب والممثل كليف اوسمند/ Clif Osmond الذي تعَـرّفت عليه أثناء دراستنا سوياً لنيل ماجستير إدارة الأعمال/MBA وقويت صداقتنا وشملث الأُسر (وتُوِّجت بأن أصبحت “أباً روحيّاً”/Godfather لابنه الوحيد ايريك/Eric).

أمّا الصّـداقة الثانية، فكانت مع لاعب كرة السلة الأشهر في زمانه كريم عبد الجبار نجم (UCLA وLA LAKERS)، كُنّـا مجموعة صغيرة من طلاب مسلمين من عدة دول نتناول غداءنا يومياً في ترس مبنى كلية الصحة العامة، فإذا الطالب كريم عبد الجبار ينضم لمجموعتنا، يُريد أن يتعرّف علينا وعن الإسلام. أذكر كم كان مُندهشاً عندما بدأ يكتب اسمه باللغة العربية يبدأ من الناحية اليمنى. أحبّنا وأحببناه لتواضعه وحُسن سلوكه، وتابعت مسيرتة الـProfessional وما حقّقه من ألقابٍ وسُمعة طيبة، وما قام به من أعمال خيرية مُتنوِّعة بعد تقاعده.

أمّا في مجال الرياضة، فقد تَعَرّفتَ وصادقت على عددٍ من الأشخاص، أغلبهم من دول أمريكا الجنوبيّة، وذلك لأنّ شخصيتهم أكثر انفتاحاً وبهجةً من غيرهم من الشعوب. في فريقنا لكرة القدم/ Saturday team (الأمريكان كانوا حينئذ يسمون اللعبة التي نلعبها Soccer، أما اللعبة التي ما زالوا يلعبونها بأيديهم football.. فَأعجب).

 

أمّا الصَّـداقة التي نَشَأت في حي السَّكَـن، فقد كانت مع أخ من المملكة العربية السعودية (لواء في السلاح الجوي) وأسرته وأسرتي. كانوا طيبين، أحببناهم وأحببنا اسم ابنهم زياد، وعندما رزقنا الله بولد سميناه زياد تيمناً باسم ابنهم (زياد ابننا هو أول زياد في السودان قولاً فصلاً، كما أنّ اسم بنتنا “سيما” هو أول اسم بالسودان قولاً فصلاً، لأنّ السودانيين درجوا على تسمية “شيماء”).

 

إحقاقاً للحق، وإرجاعاً للفضل لذويه، أقول إنّ نفقات دراستي خلال السنوات الأربع الأولى كانت على برنامج المساعدات الأمريكية/ USAID، الذي كان يُشجِّع ويدعم دعماً مالياً كاملاً كل البرامج الشخصية، لتتعرّف على كل أمريكا، ومن مثل هذا الدعم المالي سافرت لعدة مناطق بأمريكا شمالاً وجنوباً وشرقاً.

عليه، سأظل مُدِيناً لبرنامج USAID، شاكراً لفضله.

في الختام، لهذه الرِّسالة (7) واجب عليّ أن أشكر دافع الضرائب السوداني الذي وفّر لي تعليماً داخلياً وخارجياً على مستوى مرموق، متمنياً أن أكون ما قدمته من تعليم لطلاب الوطن لأكثر من خمسين سنة مُتّصلة، رداً لبعض الدَّين عن كتفي.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.