رسالة (خارج التسلسل الرقمي)

إعداد: بروفيسور أحمد حسن الجاك

جمعتني ليلة (الاثنين 22 أبريل 2024) في شقة ابن أخي/ عمار الجاك، بالشريف الدكتور/ مرتضى الإدريسي، تناولنا فيها أشخاصاً وذكريات وأحداثاً مروا علينا ومرت علينا وبقوا في الذاكرة رغم طول السنين، وذلك لإيجابيات وجماليات ما تركوه في النفس والوجدان من أثر.

في فترة الإجازة الصيفية بين السنة الدراسية الأولى والثانية انضممت لجمعية الجغرافيا بالجامعة. كانت خطة الجمعية في تلك الإجازة التوجه لجبال النوبة (الغربية والشرقية) في رحلة تستغرق أربعة أسابيع (28 يوماً بالضبط حساباً ولداً في كل شيء وشيء).

 

2

في أول أيام شهر أبريل 1959 تحركنا (كل طلاب الرحلة والأستاذ/ المشرف على الرحلة واثنين من عمال الجامعة طباخ ومساعده) محطة سكة حديد الخرطوم متجهين إلى مدينة الأبيض عاصمة مديرية كردفان نهاية خط السكة حديد المتجه غرباً في رحلة من المفترض أن تستغرق 24 ساعة في قطار تسحبه قاطرة بخارية. مررنا على عدة محطات صغيرة وكبيرة مثل الكاملين والحصاحيصا وود مدني وسنار التقاطع (سميت هكذا لأن منها تتفرع السكة حديد شرقاً إلى القضارف وكسلا وغرباً إلى كوستي وتندلتي وأم روابة والأبيض وسميت كذلك حتى لا يتم اللبس بينها و بين سنار عاصمة الدولة السنارية/ السلطنة الزرقاء على الجانب الآخر من النهر).

بقينا في الأبيض – عاصمة مديرية كردفان المديرية الأكبر من مديريات السودان التسع آنذاك والتي يقال عنها: “كردفان الغرة أم خيراً جوّه وبرّه” – يومين قام خلالها مشرف الرحلة إيجار عدد اثنين لوري بدفورد/Bedford (يسموه السودانيون: سفنجة)، هو عبارة عن موتور وصندوق تخشيبة ليس به مقاعد/ كنب، صعدنا نحن الطلاب والمشرف في لوري، وركب الطباخ ومساعده في اللوري الثاني ومعهم كل مستلزمات الأكل الناشف من فول وعدس وزيت وبصل وفحم.. وبكميات محسوبة بدقة.

 

3

غادرنا الأبيض نحو مدينة الدلنج أول مدن جبال النوبة الغربية (يجدر الذكر بأن جبال النوبة تتشكل في شكل حدوة/ horseshoe/U-shaped

الدلنج مدينة جميلة، بقينا فيها يوماً وليلة أذكر دوماً كيف كتب اسم “مركز التدريب على الجبل المطل على المدينة”.

من الدلنج سرنا جنوباً إلى كادُقلي أكبر مدن الجبال الغربية، بقينا فيها أولاً ثلاثة أيام، ثم عدنا إليها ومكثنا فيها ثلاثة أيام أخرى. غادرناها بغرض زيارة “بحيرة كيلك” (التي جاء ذكرها في كتاب “المطالعة المحبوبة” لتلاميذ المرحلة الأولية ومقابلة بابو نمر/ ناظر عموم قبيلة المسيرية (في زمن الاستعمار الإنجليزي وعهد حكم الإدارة الأهلية/Native Administration كان بابو نمر أحد نظار القبائل الكبار ذوي السمعة والجاه والمقام. التقينا بالناظر/ بابو نمر عند بحيرة كيلك (بحيرة كيلك هي المربط الصيفي للقبيلة وأبقارها وغيرها من أنعام، هنا يقضون شهور الصيف حول البحيرة لتوفر الماء ثم يغادرونها مع بداية نزول أمطار الخريف).

 

عندما غادرنا كادُقلي سألنا مضيفينا عن اتجاه بحيرة كيلك؟ وعن المسافة/ الزمن؟ بكل بساطة وعفوية أشاروا لنا عن الاتجاه (جنوب غرب) وعن المسافة/ الزمن بتعبير “هي هي” فهمناها قريبة شديد (فركة كعب) ركبنا لورينا السفنجة (وقوفاً.. دائماً) متجهين إلى كيلك التي وصلناها – يا مؤمن يا مصدق – بعد ثلاث ساعات إلا عشر دقائق سواقة متصلة (قالوا شنو؟ هي هي!!!).

مهما كان تصورك لحجم البحيرة أو عن ضخامة الشجرة التي يستظل بها لما كنت أقرب مما رأينا، هذه البحيرة حقيقة هي نهر إن لم نقل بحرا، أما عن ضخامة وقطر الشجرة التي نحن تحتها فليس لك إلا أن تقول سبحان الله الخالق العظيم، وأما عن الأنعام/ الأبقار وهن يشربن داخل البحيرة فليس لك إلا أن تقول ما شاء الله تبارك الله.

 

4

نزلنا من راحلتنا وسرنا مع مرشدنا لمقابلة ناظر عموم قبيلة المسيرية بجلاله قدره التي جاء ذكرها أعلاه. وقفنا أمام الناظر وكان راقداً على “عنقريب هبابي” لابساً سروال طويل صدره عاري وممشوك بخلطة قرض وزيت. صنقر على العنقريب وصافحنا واحداً واحداً، وبعدها سأل الأستاذ المشرف على الرحلة “انتو عيال منو؟”، (هذا السؤال يدلك على كيف يتم التعرف على الفرد ليس باسمه ثلاثياً أو رباعيات، إنما بقبيلته أو ببطن أو فرع من القبيلة هكذا الحال هناك)، رد الأستاذ المشرف على الناظر معرفاً بنا وعن أهداف رحلتنا وسبب زيارتنا لمقامه، فظل الناظر يردد “ما شاء الله ما شاء الله”. جلسنا على الأرض أمام الناظر وعندها أحضروا لنا موية في صفيحة و”كورة قرعة” (نعم موية من ذات البحيرة التي تغوص فيها الأبقار إلى بطونهن) شرب بعضنا مطمئناً وشفط الكثيرون شربة تكريماً لمقام الناظر. أنا شخصياً قضيت كل اللحظات ونحن جلوساً أمام الناظر استرق النظر إليه، أسأل نفسي من أين لهذا الشخص كل هذا المقام والسلطة والسمعة؟؟؟ ظل هذا السؤال يتردد عليّ كثيراً كلما ظننت إني وصلت لإجابة عليه تجاوزتها (القبيلة أو الكاريزما). وأنا شارد بذهني سمعت الناظر يسأل الأستاذ المشرف “إنت والعيال قاعدين معانا قدر شنو؟” كان رد المشرف عبارة عن جدول رحلتنا من الخرطوم والعودة ليدها، أطرق الناظر فترة ثم قال “كلام الحكومة أوامر” طالباً منا العودة لزيارته مرة أخرى.

ودعناه فرداً فرداً وهو يقول “الله معاكم يا العيال”.

شهد الله حزن الكثيرون وبكى البعض منا في لحظة وداع الناظر/ بابو نمر ناظر عموم قبيلة المسيرية بالرغم من أنّنا لم نطل الجلوس أمامه أكثر من ساعتين.

حيا الله ذكرى الناظر/ بابو نمر ناظر عموم قبيلة المسيرية ذوي السمعة والذكرى الطيبة والمقام المهاب.

وحيا الله ذكرى ذلك اليوم على ضفاف بحيرة كيلك.

 

5

قضينا أربعة أيام معسكرين في كادُقلي بعد عودتنا من كيلك نخرج منها لقرى صغيرة حولها في زيارات قصيرة للتعرف على المنطقة من نواحٍ طبغرافية ومعيشية واجتماعية، سمحت هذه الزيارات للوقوف على زراعة التروس/terrace agriculture (هذا النوع من الزراعة يتطلب عمل تروس متدرجة حول الجبال لصد مياه الأمطار والاستفادة منها في الزراعة.. تروس إيجابية نافعة للبشر). أثناء واحدة من تلك الزيارات فاجأتنا مطرة ذات بأس شديد لم يقدر السفنجة من تجاوزها فوحل وكلنا ابتلينا تماماً كيف العمل؟ هدانا البرق الساطع على سقف من الزنك على كيلومترات قد تكون بعيدة أو قريبة. نزلنا من اللوري وخضناها خطى ثقيلة بطيئة في أرض لوكة، وبعد مجاهدات نفسية وجسمانية وصلنا لموقع السقف، حيث كان ينعكس البرق فإذا به دير (كاثوليكي) إيطالي تديرها راهبة إيطالية تتحدث شيئاً من الإنجليزية والعربية. في لحظات قليلة أحضرت لكل واحد منا (الطلبة والمشرف وسائق اللوري ومساعده) كيس بداخله بطانية (إن لم تكن جديدة إلا أنه تمت معاملتها بالتنظيف الجاف/dry cleaning) وطلبت منا الالتفاف بالبطانية بعد أن نخلع ملابسنا لزوم نظافتها وبعد ساعة أحضروا لنا شوربة ساخنة بها قطعة لحم في “كورة طلس أم أضانين” نمنا بعدها نومة أهل الكهف، صحينا على رائحة الشاي الصاموتي (في نفس الكَورة)، بعد الانتهاء من تناول الشاي أخطرنا المشرف أَنّ مديرة الدير أرسلت تراكتور الدير وسحبوا لورينا ونحن الآن جاهزون للعودة إلى كادُقلي خلف مرشد من سواقي الدير. لا يمكن أن أقول عن مثل هذا الخُلق الجميل والتعاون والتسامح؛ غير جزى الله أهل ذلك الدير خيراً لما يقومون به لأهلنا في تلك المنطقة من خدمات لم تقدمها لهم حكومة المديرية.

من كادُقلي ذهبنا إلى أبو جبيهة (قاعدة جبال النوبة).. أبو جبيهة معروفة بإنتاجها لنوع معين من المنقة كثير الليف. بعد أبو جبيهة انطلقنا نحو الجبال الشرقية إلى مدينتي/ مرتكز رشاد والعباسية. لا شيء جديد يمكن ذكره في هاتين المدينتين سوى اني في العباسية سمعت في الراديو تخريج زميلي وصديقي/ فيصل منصور شاور من الكلية الحربية؛ فأرسلت تلغراف تهنئة بعنوان والده (العم منصور شاور/ تاكسي رقم 18 المحطة الوسطي أم درمان) لما رجعت الخرطوم عرفت من الأخ/ فيصل أنه استلم تلغرافي).

 

6

إن كان لي أن ألخص ما رأيته وعلق بذهني حتى الآن من خلال أيام أبريل 1959 أقول:

أولاً: رأيت كيف كانت جامعة الخرطوم تدعم برامجها الأكاديمية بجرعات عملية في شكل فترات تدريب لفترة قد تتجاوز الشهر (داخل وخارج السودان)، تقوم بها معظم الكليات وتقوم به في كثير من الأحيان الروابط الطلابية والجمعيات الفئوية.

ثانياً: وجدت ان منظومة “الإدارة الأهلية” /Native Administration (المكونة من النظار والشيوخ والعمد ونظاراتهم) تدير شؤون العباد بأمن وسلام واستقرار وتنمية. هذه المنظومة أتى بها الإنجليز من الهند (بعد ما ابتدعوها وطبقوها في ثاني اكبر دول العالم سكانا وأكثرها تعدداً إثنياً وعرقياً وديانة).

ثالثاً: رأيت تعايش ديني (بين الإسلام والنصرانية والمعتقدات التقليدية) لم أر له مثيلاً حتى في الولايات المتحدة الأمريكية عندما درست بها ست سنوات (1963_ 1969). تعايش ديني أثمر محبة بين الناس وسلاماً واستقراراً وإنتاجاً وتنمية.

رابعاً: وجدت معاهد تدريب معلمين ومدارس توفرت لها كل مقومات التعليم والتعلم. ووجدت مستشفيات ومراكز صحية على مستوى تأهيل طيب ووجدت خدمات بريد وبرق/Post & Telegragh ذات كفاءة مثالية.

خامساً: وجدت أناساَ آمنين مسالمين سعيدين فرحين حامدين شاكرين ربهم ورب آبائهم الأولين.

 

بعد هذه الحالة المستقرة المطمئنة لإنسان جبال النوبة في أبريل 1959، حضرت وحضر الكثيرون ممن عاشوا ذلك الزمان الطيب المريح، أبريل 2024 ولم نجد اياً مما ذكرنا أعلاه من مرتكزات تؤسس لقيام دولة نافعة لأهلها ولغيرها (خيراً جوّه وبرْه) دولة تسير نحو مستقبل بخطى واقعية وثابتة، دولة تعيش في محبة وسلام واسقرار وتحظى باحترام جيرانها الأقربين والأبعدين. وليس ذلك بعسير إذا خلصت النوايا وتشبعت النفوس بحب وتعظيم الوطن (الدين لله والوطن للجميع).

اللهم أحفظ بلدنا السودان وأصلح حالنا واهدي نفوسنا رشدها وتقواها.

شارك الخبر

Comments are closed.