إلى طلابي وطالباتي في مقار النزوح والارتحال القسري.. عليكم بجهد “القادة” لا جهد “العامة” 

بدون ألوان: حمدي صلاح الدين 

شارك الخبر

احييكم جميعاً أينما كنتم وأينما حللتم، واثق يقينا أنكم أينما حللتم ستكونون بلسماً شافياً لمن حولكم. 

أعلم ذلك واثق فيه كثقتي في نفسي.

هل تذكرون ورشة ريادة الأعمال؟، آخر ورشة في الجامعة قبل اندلاع الحرب.

كنتم تمتلئون حماساً وحيوية وحباً للمعرفة، استعرنا وقتها حديثا شيقا للراحلة ليلى المغربي ذلك في ختام الورشة.

 

كنا ندغدغ أحلام مستقبل ذهبي مزهر ومخضر، قلنا يومها إنّ قلعتنا خضراء اللون والإحساس.. عريقة الحضور.. نحتفل بدفء شمسها.. نفرح بخيراتها.. الوعد عندنا التزام.. إنجازه قيمة.. نحن في قلعتنا هذه.. مهما طالعتنا الأشياء الجميلة نقول لها من هذي العين لتلك.. لأن المحبة متأصلة فينا.. حنينون..

نؤثر على أنفسنا.. صبورون، لا نشكو الهَـمّ.. شعراء، نكتب السطر الأول للوطن.. والسطر الثاني والثالث والرابع لعشقنا لجامعتنا.. خزانتنا ملأى بحجم التجارب الكبيرة.. أحلامنا مضرجة بصلواتنا ونمنماتنا..

نفاخر بهويتنا للوطن ونحملها على ظهورنا وإن طال السفر.

ثم “اندلعت الحرب” لتوقف مد تلك الأماني الخضراء.

التعويل عليكم كبير فأنتم حَمَلَة مشاعل النور.

قدموا لمجتمعاتكم المحلية عصارة ما تعلّمتموه.

 

حذِّروهم من خطورة الظلم واحكوا لهم عن مصير شيلوك التاجر المرابي الذي أراد أن يقتطع رطل لحم من جسد أنتونيو بكل جشع وبشاعة في روما القديمة.

 

عزِّزوا قيم السلم والسلام والأمن والأمان.

خفِّفوا آلام الحرب والنزوح عن الناس بخدمتهم في توفير المأكل والمشرب والملبس والمأوى والعلاج.

لا تتأخروا عن تقديم خبزتكم للآخرين أو قطعة ملابس قد تطرد زمهرير البرد من جسد طفل أياً كان لونه أو قبيلته أو جهته فلستم ممن يصنف الناس بألوانهم أو أعراقهم وقد جعلهم الله سواسية تمييزهم بـ”التقوى” لا بـ”اللون والعرق”.

حاربوا العنصرية البغيضة أينما كنتم.

اجمعوا الناس في الإمسيات ليتشاركوا المعارف والتجارب، تداولوا الكتب وناقشوها وسط مجتمعاتكم المحلية.

خفِّفوا عن الأطفال آثار الحرب، نظِّموا كورسات دراسية مجانية للتلاميذ حتى لا يبتعدوا عن جو الدراسة فأنتم مؤهلون لذلك.

 

“إليك يا صديقي”، البكاء ليس مذمة أو منقصة وأنا أعلم أنك أول من سيقرأ مقالي هذا وأعلم انك تعتبرني قدوتك، ها أنذا أعلن لك وعلى الملأ أنني بكيت أشد مما بكيت أنت، فقد رأيت وسمعت ما يهز الجبال، بكيت في شوارع أديس أبابا وطرقات الباحة وأبها وأزقة الدمام، بكاءً ونحيباً وبصوت مسموع، فالفجيعة واسعة ومتممدة فينا جميعاً، لكننا لن نستسلم.. أقول ذلك علك تتجاوز تلك المحطة.

 

البكاء ليس عيبا، بل هو تفريغ لشحنات سالبة يجب استثماره بطريقة جيدة للانتقال إلى مربع ايجابي وعدم الركون الى مربع الماضي. نحن جميعا لسنا بخير يا صديقي لكن يجب علينا التماسك لنعبر ونقود معنا آخرين للعبور.

 

البكاء ليس مذمة أو منقصة، فالرسول عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم كان يبكي والخلفاء الراشدون من بعده كانوا يبكون، والفرنسي فيكتور هيجو يقول “العيون التي لا تملأها الدموع أحياناً، يملأها الصدأ” والصدأ المقصود هو قسوة القلب وعدم الإحساس وهو أمر غير محمود لأن المؤمن هيِّن ليِّن سهل.

 

عليكم ان تخرجوا أنفسكم ومن حولكم من بؤس العتمة الى رحابة النور. افرغوا شحناتكم السالبة واملأوا أنفسكم إيجابية كما كنتم في الكلاس، مشاعل علم وحملة لقيم المعرفة والمحبة والسلام.

أعلم انكم تشرئبون شوقاً إلى الماضي..

شوقاً إلى الكلاس الذي ابتعدتم عنه لـ15 شهراً، العمل التطوعي، قطع الطريق على المارة للإفطار، الدافوري الليلي، باحة النشاط، المكتبة، تشتاقون لرفقاء ديسك الدراسة والآمال العراض وسط دعوات الآباء والأمهات والأجداد والجدات وآمالهم العريضة بمستقبل كبير وزاهر و مشرق، سيتحقق بالعزم والاصرار وتجاوز مطبات الحياة.

 

نحن جميعاً لسنا بخير، لكن يجب علينا ألا ننهار.

 

يجب علينا أن نبني جدار التماسك يومياً ونضع عليه “طوبة جديدة” مع إشراق كل صباح جديد رغم استمرار أصوات المدافع وأزيز الطائرات لنفتح شراع الآمال لمن هم حولنا، فهكذا يكون القادة وانتم قادة، أنا أعرف وواثق في ذلك.

 

عليكم أن تكونوا آخر من يأكل بعد أن تتأكدوا أن جميع من حولكم أكل وشبع، وعليكم أن تكونوا آخر من يشرب بعد ان يشرب الجميع، كما عليكم أن تكونوا آخر من ينام فهكذا يكون فعل القادة لا العكس.

انشروا “الابتسامة” و”المحبة” بين الناس، فالحب فعل رباني كما قيل في الحديث القدسي “إذا أحب الله عبداً…. إلى آخر الحديث”. كونوا مبتسمين، محبين للناس، ناشرين للمحبة والمودة، عندما يراكم الناس تتهلل وجوههم فرحاً بقدومكم.

 

اضغطوا على جروحكم وآلامكم وكأن من يراكم يقسم انكم بلا جرح ولا ألم ولا ضرر.

أجبروا خواطر من كسرت البندقية خاطرهم، فجبر الخواطر واحد من مفاتيح فلاحي الدنيا والآخرة.

اعلم محبتكم لبلادكم ولجامعتكم ودراستكم وتوقكم إلى التخرج لمساعدة وإعانة أهاليكم، لكن كل ذلك محكوم بإرادة الله وليس إرادتنا.

 

بقبولنا ورضائنا وقناعتنا، بإرادة الله سيعوِّضنا الله خيراً وفيراً وكثيراً إن شاء الله.

 

أنتم أمام ظرف استثنائي، عليكم ان تثبتوا لأهاليكم ومجتمعاتكم قوة الشكيمة فيكم وأصالة المعدن ونقاء السريرة وصدق لقب “طالب علم” الذي يزين أعناقكم ويجعل هاماتكم تعانق عنان السماء اعتزازاً.

 

ابتعدوا عن النقاشات السياسية التي لن تولد إلا الشقاق داخل مجتمعاتكم المحلية الصغيرة، ليكن همكم الأول والأخير هو إنسان المنطقة أمنه، سلامته، مأكله، مشربه، علاجه وقيادته إلى نور السلم والسلام النفسي والاجتماعي.

 

دوركم يتعاظم كل ما اشتد أوار الحرب وارتفع صوت البنادق والمدافع وأزيز الطائرات وكل ما ازدادت أرقام النزوح في دفاتر وسجلات الحرب.

 

أعلم أن كثيرين منكم بدأوا فعلياً في تشارك ما تعلموه وسط مجتمعاتهم المحلية وانا سعيد بذلك أيّما سعادة، أعلم انهم تلذذوا بقيمة العطاء “أن تقدم للآخرين جهدك ووقتك ومالك دون أن يكون في فكرك ان هناك مقابلاً لهذا” وهذه قيمة كبيرة يفتقدها آخرون دونكم.

 

إن “قضاء حوائج الناس” أفرد لها الدين مساحات كبيرة ومقارنات واسعة وأحاديث كثيرة، فهي العوض والبدل الذي جاد به الله على الناس، فالحرب فيها أجر وثواب ودروس وعبر على نقيض إفرازاتها من القتل والأذى والنزوح والتشرد وهذا من فضل الله على الناس فليس الأمر كله ضيق وشر.

 

انا افتخر ان عدداً منكم مضى سنوات ضوئية في قضاء حوائج الناس وهذا مصدر فخر واعتزاز كبيرين لي، فأنا أعرف معادنكم واعرف محبتكم للسودان ومحبتكم العلم والمعرفة.

 

أتذكّر المكالمة الجماعية التي نظمتموها، أكتوبر 2023، والتي استمرت ساعات والتي تمكن من اللحاق بها عدد منكم ممن توفرت له شبكة يومذاك بعد مرور ستة أشهر على الحرب، كنتم تودون الحديث المطول وتريدون من يسمع صوتكم وآمالكم وآلامكم، وكان السؤال الأبرز لكم “الحرب دي ح تقيف متين؟”، ناقشنا وقتها ما يرد في الإعلام عن “توازن القوى بين المتحاربين / نسبة الأمية العالية / نسبة الوعي المنخفض / القبلية والعنصرية التي تستخدم كروافع وحواضن لزيادة أوار الحرب” وخلصنا إلى أن أمد الحرب سيطول وفق المعطيات على الأرض واتفقنا على تأمين الأنفس والأرواح أولاً ثم البحث عن مسارات دراسة جديدة.

 

ختاماً أقول لكم…

لا تستهينوا بخبراتكم وما تعلّمتموه في الجامعة.

تعلّمتم أساسيات البحث وتدرّبتم على كيفية إدارة حلقات النقاش، هذان محوران مهمان، ابحثوا في قوقل ويوتيوب عن كيفية العيش في مناطق النزاعات، كيفية العيش في مناطق إطلاق النار، ابحثوا في الانترنت عن الأسلحة التي تستخدم في حرب السودان مداها، ضررها، كيفية تفاديها، ابحثوا عن المنح والمنظمات وافتحوا خارطة السودان الطبيعية وظللوا الأماكن الآمنة، الطرق الآمنة، مناطق النزاع، مناطق الأمطار والسيول، منافذ الخروج ومنافذ الانتقال من مدينة لأخرى ودونوا على الأوراق والدفاتر ثم نظموا حلقات نقاش للناس من حولكم حول أهمية الأوراق الثبوتية، ضرورة شحن الهاتف وآليات الاحتفاظ بطاقة الهاتف، اقتصاد المياه وطريقة تعقيم المياه وتنقيتها، تنقية الوجبات والمحافظة عليها بطريقة صحية وما هي الوجبات الصالحة لفترات طويلة، إصحاح البيئة، السلام النفسي والاجتماعي، أماكن الخطر، بروتوكولات تفادي مناطق الخطر وطرق التقديم للمنح والمساعدات، فانتم مؤهلون لذلك كامل التأهيل.

 

لأذكركم أكثر، هل تذكرون حلقات النقاش التي أدرتموها داخل الكلاس بعد إصدار صحيفتكم الإنجليزية الأولى؟ وكيف وزعنا الكلاس الى مجموعات التصميم، المراجعة اللغوية، التصوير وحلقات أخرى؟ هو ذات الفعل، عليكم تملك المعلومة بطريقة علمية ثم جمع الناس وتوعيتهم.

سأكتب لكم باستمرار تشجيعاً لكم لفعل كل ما هو جميل، لن أكل أو أمل، سأظل محفزاً لكم لبذل جهد “القادة” لا جهد “العامة” وهذا أملي فيكم واعلم أنه لن يخيب.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.