إبراهيم عبد الجليل.. عصفور السودان

توثيق: سعيد عباس

من الفنانين السودانيين القلائل الذين قدموا أعمالا أكبر من أعمارهم وسنين خبرتهم فأغرى صوته الأستاذ (ديمتري البازار) ليفاوضه ويجلس مع أسرته لإقناعهم باصطحابه إلى القاهرة لتسجيل (اسطوانة فونوغراف) رغم حداثة سنه، فذهب معه وكان حديث الصحافة المصرية بعد أن استمعت إليه كوكب الشرق ام كلثوم ولقبته (بعصفور السودان).
وُلِدَ الفنان إبراهيم عبد الجليل بالموردة عام 1914م بأم درمان والصدفة وحدها هي التي قادته إلى أن يكون فنان السودان الأول في ثلاثينيات القرن الماضي فقد بدأ حياته صبي سمكري (للفوانيس والرتاين) بعد أن ترك الدراسة بسبب وفاة والده فأتقن الصنعة في فترة زمنية وجيزة، ولكنه لم يستطع فتح دكان بسوق الموردة نسبة لوجود ورش كبيرة بإمكانيات ضخمة، ولكنه بدأ يصنّع فوانيسه، ويذهب بها إلى الأسواق والأحياء وهو يصدح بصوته لتسويق بضاعته، وكان الناس يطلبون منه أن يردد ثانيا وثالثا حتى يشتروا منه وذلك لطلاوة صوته ونداوته وفي إحدى جولاته مرّ بكلية غردون فوجد الأساتذة (الإنجليز) هناك وكانوا يطلبون منه أن يردد جُمَلِه التسويقية حتى يطربهم ثم يشتروا منه وهم ليسوا بحاجة لتلك البضاعة، في تلك اللحظة لمحه الأستاذ ديمتري البازار وتعقبه حتى بيته ثم نزل من سيارته التي كانت تعتبر من ضمن خمس سيارات فقط في العاصمة المثلثة فسأل الصبي، قائلا: “هل سمعت بالفنان عبد الله الماحي؟” فرد بالإيجاب، فقال ديمتري: “ما رأيك أن أعمل لك اسطوانة بنفس طريقة عبد الله الماحي؟”، فوافق الصبي على الفور، ولكن البازار قال: له (الاسطوانة) سنسجلها بالقاهرة وستكون كل نفقاتك على حسابي فذهب البازار إلى والد إبراهيم عبد الجليل الذي قال: “نحن لا نمانع ولكن لنا شرط واحد هو أن يرجع ابننا في أقل من أسبوعين فقط سالما معافى”، فوافق ديمتري على ذلك وكتب تعهدا ثم أخذه وطار به إلى القاهرة وتم التسجيل باستوديوهات (اوديون) الألمانية، ولكن في الاستديو كان هناك عدد من الإعلاميين نسبة إلى أن أم كلثوم كانت ستسجل بعد إبراهيم وكانت المفاجأة هي أن يخطف إبراهيم الأضواء من كل الحاضرين ويبهرهم بصوته الطروب وهو يسجل أغنية (الشويدن روض الجنان) التي كانت أم كلثوم تشاركه فيها الأداء عن طريق الترديد خلفه بطريقة تلقائية حتى توجهت عدسات وكاميرات الإعلاميين الموجودة هناك صوبه، ووقتها قالت أم كلثوم إنه (عصفور السودان) فحملت الصحافة المصرية في اليوم الثاني صوره وأخباره ثم قابلته أم كلثوم وعرضت عليه أن يدرس في معهد القاهرة للموسيقى على نفقتها الخاصة مع الإقامة، ولكن ديمتري أخرج الورقة التي كتب فيها عهدا لوالديه على أن يرجعه سالما آمنا في أقل من اسبوعين، وأنه لا يستطيع أن يرجع إلى السودان دونه، فوافق على أن يأتي إليها في المرة القادمة، وبالفعل رجع إلى السودان ومعه ما يقارب الـ 95 جنيها مصريا، مما جعله يشتري سيارة (هيلمان) كأول فنان سوداني يمتلك سيارة، ورجع إلى القاهرة مرة أخرى وقابل أخاه التوم عبد الجليل الذي كان يعمل بالجيش المصري في تلك الفترة، وكان ذلك في عام 1935م، وذهب مرة ثالتة بمعية عوض شمبات والفاضل أحمد وسجلوا عددا من الاسطوانات باستديوهات (ميشيان) وغنى إبراهيم أغنية (ضاع صبري) التي غناها بعد ذلك الفنان أحمد الطيب وغنى (عروس الروض) التي أهداها مؤخرا للفنان عبد الدافع عثمان كما غنى (البرهة القليلة) لعبيد عبد الرحمن و(زمني الخاين) للمساح و(يلوحن لي حماماتن). بعد ذلك قدمت السيدة أم كلثوم دعوة للفنان إبراهيم عبد الجليل للمشاركة في حفل بمكان اسمه (بار اللواء) غنى فيه محمد عبد الوهاب وليلى مراد وأم كلثوم نفسها وغنى معهم إبراهيم عبد الجليل بمستوى أدهش الحاضرين حتى تم تكريمه في نهاية المنتدى من قبل منظمي الحفل، ولكن للأسف الشديد عندما رجع إلى الخرطوم عاش فترة توهان نفسي لفترة طويلة أبعدته عن المسارح والغناء وجعلته يبعد كثيرا عن المجتمع حتى ذهب به أهله لكثير من الأطباء والمشائخ ولكن دون جدوى. وعندما جاءت أم كلثوم إلى السودان في عام 1967م لتغني لدعم المجهود الحربي طلبت أن تقابل إبراهيم ولكن وضعه النفسي والصحي لم يسمح له بمقابلتها فسافرت دون أن تراه حتى توفاه الله في عام 1968م وهو في قمة عطائه وبذله.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.