السر سيد أحمد

من جمهورية الاعتصام.. إلى بناء البديل (1 + 7 )
زمان القرارات الصعبة وإعَادَة ترتيب الأولويات

شارك الخبر

في مُنتصف مارس المَاضي، شَارَكت في مؤتمر بباريس عن مُستقبل البحر الأحمر، ومع أنّ تركيز المُؤتمر كان على الجوانب الإقليمية إلا أنّ ما يجري في السودان لقي نقاشاً مُستفيضاً داخل وخارج الجلسات خَاصّةً من بعض الحُضُور مثل هاري فيرهوفن مؤلف كتاب عن الاقتصاد السِّياسي لبناء الدولة الإسلامية في السودان، مايكل ولد ماريام، بروفيسور علوم سياسية وعلاقات دولية، جامعة بوسطن، دكتور سيد حمزة صفوي، معهد الدراسات المُستقبلية الإسلامية، وطهران ورولان مارشاند من مركز الأبحاث الدولي في باريس وغيرهم.

ورغم خلفيات هؤلاء المُتباينة وتنوُّعهم الجُغرافي والسياسي، إلا أنه برزت بينهم قناعة أن الرئيس السابق عمر البشير قد نقل السودان إلى المرحلة الموبوتية في إشارة إلى الرئيس الأسبق الكنغولي موبوتو سيسي سيكو الذي رهن البلاد إلى تحالُفات مُتقلبة، مُستغلاً وضع الكنغو الجيوستراتيجي وموارده الضخمة وذلك في مسعىً لضمان بقائه في السلطة لأطول فترةٍ مُمكنةٍ لينتهي فاقداً لأيّ صدقية، بل وَعَبّرَ البعض عن مَخاوف أن ينزلق السُّودان إلى حَالةٍ من الفَوضى، وأن اليوم التالي لتنحِّي البشير سيشهد انطلاق عُنف تبدو تلك التي شهدتها الخرطوم عند الإعلان عن مصرع قرنق وكأنّها بروفة صغيرة لما هو مُنتظرٌ.
المُقاربة بين الكنغو والسودان لا تقف عند المُقارنة بين موبوتو والبشير، وإنما تستمر إلى حاضر البلدين الذي تُحيط به الأسئلة من كل اتجاهٍ. فبعد 22 عاماً من إزاحة موبوتو عن السلطة، لا تزال البلاد تُعاني من حالةٍ مُستمرةٍ من عدم الاستقرار السِّياسي تمثلها حَالة الصِّراع بين الرُّعاة والمُزارعين بامتداداتها الأجنبية العاملة على استغلال وضع البلاد الجيوستراتيجي المُميّز لصالحها وذلك لسببيْن رئيسييْن: عدم بذل مجهودٍ ملموسٍ في اطار رؤية وبرنامج للتنمية لاختراق حالة الفقر التي يرزح تحتها سُكّان الكونغو، وصحب ذلك اقتصار النشاط السِّياسي على النُّخب وصفقاتها المُتبادلة وغياب البُعد الشّعبي بالصُّورة التي تَجعل من النّاس هدف العملية السِّياسية وحراسها للتقدم في اتجاه التنمية والتّحَوُّل الديمقراطي.
التّغيير الذي شهده السودان في الحادي عشر من أبريل لم يفتح الباب تلقائياً إلى فوضى وأعمال عنف استناداً إلى سنواتٍ طويلةٍ من القمع وسُوء الحُكم مع تَعدُّد حركات التمرد وانتشار السلاح، لكن هذه الفترة شهدت فراغاً سلطوياً ودستورياً بسبب تَطَاوُل المُفاوضات بين المجلس العسكري الانتقالي وقِوى إعلان الحُرية والتّغيير، مما يهيئ الأرضية الملائمة لحُدُوث أسوأ السيناريوهات، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث حتى الآن رغم حالة التوتُّر العالية التي تسود البلاد بسبب الخلاف بين اللاعبين الأساسيين، الأمر الذي هيأ المناخ لخسائر بشرية تَجَاوزت تلك التي حَدثَت قبل إزاحة البشير.
في تفسير ذلك تتعدّد الأسباب والاجتهادات، ويأتي على رأسها سلمية الثورة التي فَرَضت نفسها حتى على حَمَلَة السلاح، خاصّةً أولئك المُنضوين تحت راية نداء السودان ووقّعوا على إعلان الحُرية والتّغيير في الأول من يناير.
ثُمّ هناك تَعقيدات المشهد السِّياسي السُّوداني الداخلي ووجود (3) قِوى تحمل السلاح هي، الجيش وجهاز الأمن والدعم السريع، وهي قد اتّفقت على الأقل في البداية على إزاحة البشير، كَمَا مَدّت يَدها للتّعامُل مع القِوى المَدنيّة التي أشعلت الثورة واحتمالات تَوحُّدها خلال الفترة الانتقاليّة يبدو كَبيراً مَنعاً لحُـدُوث الفَوضى أو انفـلات أمني.
على أنّ المجهول الأكبر في المُعادلة السُّودانيَّة الرّاهنة، يبدو قِوى الشباب والنساء التي تَصَدّت لما عجزت عنه القِوى السِّياسيَّة التقليدية والحركات المُسلِّحة طوال العقوده الثلاثة الماضية ومُنازلة نظام الإنقاذ حتى جَندلته خلال أكثر من خمسة أشهرٍ مُتواصلةٍ من الحِرَاك الشعبي المُناوئ الذي لم تقعد به عمليات العُنف والدَّهس التي طَالَت 90 شهيداً حتى سُقُوط النظام.
فترة الأشهر الأربعة التي استغرقتها الثورة وتوّجتها بالاعتصام أمام قيادة القوات المسلحة لمدة 58 يوماً ومُتجاوزة بذلك اعتصام رابعة العدوية المصري الشهير بعشرة أيام كاملة وإسقاط البشير ووراءه نائبه عوض بن عوف والاستمرار في المُطالبة بمدنية السُّلطة تُعتبر قياسية، مُقارنةً بتاريخ الانتفاضتين السابقتين في السودان، بل وبِمَا جَرَى في ثورات الربيع العربي، وهو مَا تَمّ التّأكيد عليه في الفيضان البشري الذي شَهدته مواكب 30 يونيو رغم قطع خدمات الإنترنت، وسيلة التّواصُل الرئيسية، مما يُشير إلى حجم التصميم الذي يستذكر ويسترجع روح معركة كرري الفدائية رغم مَقتلة الثامن من رمضان التي كانت تلخيصاً مركزاً لما ينتظر المُعتصمين في التاسع والعشرين من الشهر الفضيل.
على أن حجم التصميم على إحداث التغيير أبرزته مواكب الثلاثين من يونيو التي فاقت في حجمها وانتشارها على امتداد السودان كل ما سبقها من تظاهرات رغم انقطاع وسائل التّواصُل بسبب حجب الإنترنت التي شَكّلت السلاح الأقوى في مُواجهة الأنظمة، مِمّا أهّلها لتصبح أحد ملامح ثورات الربيع العربي، لكن ها هو السُّودان يُسَجِّل إضافةً جديدةً أنّه ليس بالإنترنت وحده تقوم الثورات وتتواصل!!

الفترة التي انقضت منذ إزاحة البشير وحتى الاتّفاق الأخير تشير إلى حقيقة أساسية، وهي أنه لولا الحراك الشعبي المُناوئ والمُتواصل لما تحرّكت اللجنة الأمنية ضد البشير، لكن وبنفس القدر فلولا تدخُّل هذه اللجنة بأفرعها الثلاثة من الجيش والدعم السريع والأمن، لما تمّت الإطاحة بالبشير. الوعي بهذه الحقيقة هو ما دفع بقِوى الحُرية والتّغيير إلى إصدار ندائها الشهير إلى القوات المسلحة في الخامس من أبريل الذي قالت فيه مُخاطبةً العسكريين: “ولهذا يهتم شعبنا بتقديم هذه المذكرة لكم للانحياز لمطالبه كما فعل زملاؤكم الوطنيون منذ ثورة 1924″… واختتمت بالقول: “كما أننا نعقد الأمل الكبير بأن تنتصروا لنداء الواجب والضمير في الانحياز للشعب وثَورته في استعادة الحكم الديمقراطي المَدني وتحقيق السَّلام العَادل والتّنمية المُتوازنة”.
على أنّ تلك المُذكِّرة كانت تَعكس تبسيطاً، إن لم نقل عدم دارية بكل أبعاد الواقع السياسي والأمني المُعَقّد، الأمر الذي أدّى إلى فترة أكثر من ثلاثة أشهر من التجاذُبات والتِّيه بكل خسائرها البشرية والمادية وتمدُّد الفراغ السُّلطوي مِمّا دفع الوساطات الأجنبية إلى تأخير مصالحها الخاصّة ولو مُؤقّتاً، والضغط باتجاه منع السودان من الانزلاق في هاوية الفوضى والحرب الأهلية، ودفع طرفي المُعادلة إلى أول لقاءٍ مُباشرٍ بينهما في التاسع والعشرين من يونيو رغم وُصُول العِلاقَة بينهما إلى أدنى مُعدّلٍ لها، وفي الليلة التي سَبقت مَواكب 30 يونيو وإحداث الاختراق الذي فتح الباب أمام اتفاق الخامس من يوليو القائم عَلَى شَراكةٍ مَفروضةٍ بسبب تَوازُن القِوى المُتمثل في عدم قُدرة العَسكريين على تَجَاوُز المَدّ الشّعبي للثّورة المُستند إلى رفضٍ إقليمي ودولي للبزّة العسكرية في الحُكم، لكن في ذات الوقت فإنّ القِوى المَدنية تحتاج سلاح العسكر لوضع يدها على السلطة.
كل المُؤشِّرات تُنبئ أن شراكة الأمر الواقع المَفروضة على المجلس العسكري وقِوى الحُرية والتّغيير خلال الفترة الانتقالية ستكون مُشكلة في حَدِّ ذاتها. ففي غياب المجلس التشريعي في البداية، فإنّ المجلس السيادي سيُمارس دوراً أكبر من حجمه المُفترض، ولهذا يحتمل أن تكون عملية تسمية العضو الحادي عشر قضية في حدِّ ذاتها على أساس أنه يُمكن أن يلعب دوراً مُرجحاً. وحتى على افتراض حسم المَشاكل العَالِقَة وضبط التّفسيرات المُتباينة والتّوقيع على الاتّفاق، فإنّ ذلك لا يَعني نهاية الاختلافات وذلك لتبايُن الرُّؤى من ناحية بين العسكريين والمدنيين خاصّة، ما يتعلّق بدور العَسكريين في الواقع السِّياسي، وأهم من ذلك الاتّهامات التي قد تَطَال العَسكريين خَاصّة لجهة المسؤولية عن مَجزرة فض الاعتصام. العسكريون سيعملون على الاستفادة من حقيقة أنّهم سيتولّون رئاسة المجلس السيادي في الفترة الأولى من عُمر الفترة الانتقالية. وكان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق هارولدويلسون يقول إنّ الأسبوع وقت طويل في عالم السياسة فما بالك بواحد وعشرين شهراً. إضافةً الى ذلك، فإنّ للعَسكريين سَيطرتهم على القُوة الأمنية الصّلبة واستمرار ذلك التّأثير عبر إشرافهم المُتوقّع على وزارتي الدفاع والداخلية، إضافةً إلى جهاز الأمن والمُخابرات الذي يلعب دوراً مُهمّاً في إدارة الدولة، وهو الدور الذي عزّزته هذه الفترة المُتطاولة من غيابٍ للحكومة واستمرار عمل الدولة وتسيير أمور الحياة اليومية من توفير للاحتياجات الأساسية للمُواطنين مثلاً.

قِوى الحُرية والتّغيير من جانبها تُحظى بتعاطفٍ دولي ولها سيطرة على الشارع، لكن تلك السيطرة ليست مضمونة دائماً، خُصُوصاً وهذه القِوى ستكون مُكلّفة بإدارة الحكومة في ظرف اقتصادي صعبٍ وسياسي أصعب، الأمر الذي يتطلّب تَأطيراً مُؤسسياً للدعم الجماهيري وذلك من خلال الانتقال إلى مرحلة الشرعية الدستورية عبر إعادة انتخاب اللجان الشعبية والنقابات وتوفير سندٍ جماهيري دائمٍ من خلال عملٍ سياسي نشط ومُستمرٍ.
المجلس العسكري الانتقالي لا يُمكنه المُضي قُدُماً واستغلال الكروت الموجودة لصالحه إلى أقصى حَدٍّ وذلك لسببٍ بسيطٍ، وهو أنه محشورٌ في زاوية ضيِّقة ويحتاج إلى قوى الحرية والتغيير. فالوجود العسكري في السلطة أصبح أمراً غير مُرحّبٍ به شعبياً ولا أفريقياً، حيث أصبح موقف الاتحاد الأفريقي الأساس الذي تستند عليه تحرُّكات عالمية فردية أو عبر مُؤسّسات إقليمية أو دولية مثل مجلس الأمن. النقطة الأهم في هذا أنّ الاتحاد الأفريقي الذي شكّل حائط الدفاع الأول عن الرئيس السابق عمر البشير ضد المحكمة الجنائية أصبح رأس الرمح الآن في مُحاصرة المجلس العسكري.
على أنّ الأمر يتجاوز الصراع بين العَسكريين والمَدنيين ومن يُمكنه تحقيق نقاطٍ على الآخر إلى مُستقبل البلاد، بل وإمكانية وجودها الذي أصبح على المحك. فهل يستطيع السودان تَحَمُّل مُقاطعات إضافية وحظرٍ فيما إذا تم توجيه اتهامات لبعض القيادات العسكرية واحتمال لجوء الأخيرين إلى خيار اتخاذ البلاد رهينةً لهم حماية لأنفسهم؟
هناك الكثير من الشعارات المرفوعة خلال الأشهر الماضية من تفكيك دولة الإنقاذ الى ضمان الحريات الأساسية والتّحوُّل الديمقراطي إلى وقف التّدخُّلات الأجنبية في شؤون البلاد، وقبل ذلك كله مُواجهة الوضع الاقتصادي المُتردي وتَحسين مَعاش الناس وغيرها. هذه قضايا كبيرة لا يُمكن تناوُلها كلّها في وقتٍ واحدٍ خَاصّةً والوضع السِّياسي والدستوري يقوم على شراكةٍ غير مُريحةٍ، الأمر الذي يَجعل من هذه الفترة مرحلة الخيارات الصّعبة وليس في الأفق حلٌّ سَهلٌ أو سَريعٌ أو مُبَسّطٌ، وهو ما يُفترض أن يدفع باتّجاه البحث في البدائل ومُختلف الخيارات التي يُفضِّل اللجوء إليها في أجواءٍ من الحُرية والشّفافية وضعا في الاعتبار أن لكل خيار ثمنه ومِن ثَمّ الاتّفاق على أيِّ ثمنٍ يُمكن دفعه ولتحقيق أيِّ هدفٍ. وكل هذا يتطلّب بداية إعادة ترتيب للأولويات.
(غداً.. وفي اليوم التالي)

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.