السر سيد أحمد

من جمهورية الاعتصام.. إلى بناء البديل (2+7)

شارك الخبر

نجاح الثورة المُتوقّع، رغم العَثَرات في العبور إلى تشكيل هياكل الفترة الانتقالية وعدم انزلاق البلاد إلى حالة من العُنف والفوضى، لا يعني أنّ مرحلة الخطر تم تجاوزها بسلامٍ. فالتجاذُب بين المجلس العسكري وقِوى الحرية والتغيير يشير بوضوح إلى القنابل الموقوتة التي يُمكن أن تنفجر في أيِّ وقتٍ وتضع مُستقبل الوطن كله على المَحَـك.
تعود جُذُور الإشكالية إلى النداء الذي قدّمته قِوى إعلان الحرية والتغيير للقوات المسلحة في مُذكِّرتها الشهيرة لتنحاز إلى الثورة. فالنداء في ذلك التوقيت لم يَكن ليسمح بأيِّ ترتيباتٍ أو تفاهُماتٍ لدور الجيش في مرحلة ما بعد إزالة البشير، كما أنّ النداء أغفل عُنصريْن أساسييْن وهُمَا جهاز الأمن وقُوّات الدعم السريع. فالسلاح لم يَعد حِكراً على الجيش وحده، بدليل أنّ الانقلاب على البشير ونظامه تتطلّب اتّفاق هذه القِوى الثلاثة حاملة السلاح وهو ما عكسه أول تشكيل المجلس العسكري فيما بعد، وهذا هو الواقع الذي رُبّما لم تقرأه جيداً وقتها قِوى الحرية والتغيير وتحتاج إلى التعامُل معه وهي تدلف إلى أروقة السُّلطة مُتلمِّسة واقعاً جديداً بكل تعقيداته الأمنية في جانبه المؤسّساتي وبكل تبعاته السِّياسيَّة والاستراتيجية.
ولهذا فالدّور المحوري لهذه الأجهزة الثلاثة لا يقتصر على الماضي فقط، وإنما ينسحب إلى المُستقبل كذلك.
فقوات الدعم السريع هي التي قامت بتأمين العاصمة بقوة من تسعة آلاف جندي، أُضيف إليها أربعة آلاف آخرين بعد إزاحة البشير وذلك لتقديراتٍ أمنيةٍ وخوفاً من تَسرُّب الخبر إلى البشير وأركان نظامه، فيما إذا تَمّ تنوير الجيش بالتحرُّك المُرتقب، ويعتقد أنّ عددها الحالي قد يصل إلى 30 ألفَـاً. ولهذا تَـمّ التّغيير بإشراف اللجنة الأمنية وليس من قيادة الجيش وعبر مُختلف الأسلحة كما حدث إبان انتفاضة أبريل 1985 مثلاً ولتتربّع قُوّات الدعم السريع في قلب العملية السِّياسيَّة خَاصّةً ولها علاقاتها الإقليمية سعودياً واماراتياً بسبب وجود جُنُودها في اليمن، والدولية مع الاتحاد الأوروبي بسبب نشاطها في مجال مُكافحة الإتجار بالبشر خَاصّةً في الحدود الشرقية والغربية وتحديداً مع ليبيا، وهي نقطة الانطلاق نحو الشواطئ الأوروبية.
بُرُوز قوة الدعم السريع ودورها في التغيير استند إلى الصعود السِّياسي السريع لقائدها مُحمد حمدان حميدتي، الذي تمكّن في أقل من عقدٍ ونصف من الزمان من تولي أول منصب حكومي رسمي له مستشاراً أمنياً في ولاية جنوب دارفور ليصبح الرجل الثاني على المُستوى القومي في البلاد. وخلال هذه الفترة نَجَحَ حميدتي في تَوسيع وتطوير قوات الدعم السريع من مليشيا محلية إلى اكتسابها صِفَةً رسميّةً بتبعيتها إلى جهاز الأمن، ثمّ إلحاقها بالجيش، ثُمّ تبعيتها مُبَاشَرةً إلى رئيس الجمهورية واستقلالها بميزانيتها بعد تعديل الدستور الذي أجَازَهُ البَرلمان في 2017، وبمفهوم أنها تمثل قوة ثالثة لحماية البشير ونظامه. ومن موقع نفوذه هذا أسهم في إسقاط عوض بن عوف ببساطة عبر رفضه الانضمام إلى المجلس العسكري، الذي كان ابن عوف يعتزم تكوينه.
إضافةً إلى قوات الدعم السريع، فهناك جهاز الأمن والمخابرات الذي لديه قُوة تسليحية مُعتبرة مَكّنته من التصدي إلى غزوة حركة العدل والمُساواة في العام 2008، حيث كان الجهاز والاحتياطي المَركزي هما القوّتان الأساسيتان في مُواجهة قوات العدل والمساواة، بَينما كَانَ دَور الجَيش مُسَانِدَاً، بدليل عَدَم صُدُور أيِّ بياناتٍ رسميةٍ من القيادة العامة للجيش منذ بداية عملية الغزو في العاشر من مايو ولفترة أُسبوعٍ كَاملٍ بعد دَحر العَمَليّة.
ثُمّ إنّ جهاز الأمن أصبح ذِراع نَظَام الإنقاذ الذي يُدير به ملفاته السِّياسيَّة والاقتصاديَّة، إلى جانب مجال عمله الأساسي في الأمن. ويُذكر كيف نجح أهل الإنقاذ في الحُصُول على دعم الحركة الشعبية لتجيير سلطات إضافية للجهاز وتمريرها عبر البرلمان مُقابل المُوافقة على إجازة قانون حق تقرير المصير. وفي الجانب الاقتصادي مثلاً تَمَكّن الجهاز من تأسيس عشرات الشركات التي عُرفت بالرمادية كما أطلق عليها تقرير شهير للسفارة الأمريكية في الخرطوم نشرته ويكيليكس، وبَرَزَ دور الجهاز الاقتصادي في مُواجهة مَشاكل تَوفير الخُبز والوقود التي أجّجت التّظاهرات. وفي تنويرٍ للقيادات الإعلامية بعد أسبوعٍ من التّظاهرات، قال الفريق أول صلاح قوش، إنّ جهاز الأمن والمخابرات كان قد تدخّل لحسم أزمة الخبز بولاية الخرطوم عن طريق استلام حصص الدقيق الخَاصّة بولاية الخرطوم والولايات الأخرى بالتّنسيق مع وزراء المالية بالولايات.
هذا الوضع يُشير إلى وُجُود مُشكلة إدارية مُزمنة تَدَخّلَ الجهاز لحلها، وهو الدور الذي لا يَزال يَلعبه بصُورةٍ أو أُخرى بسبب الضُعف المُريع في جهاز الخدمة المدنية.
وعليه ففي اليوم التالي لتولي الحكومة المدنية السلطة سيكون عليها مُواجهة موضوع جهاز الأمن على عدة مُستويات:
أولها هل يتم حَل الجهاز كلية وإعادة تكوينه من جديد كَمَا تُطالب بعض الأصوات، أم تَتِم إعادة هيكلته فقط. وفي الحالتين هُناك قضية مُواجهة العقيدة المِهنيّة التي بُني عليها جهاز الأمن الحالي. فَعَقِب انتفاضة أبريل 1985 تَمّ حل جهاز الأمن المايوي واستغرق الأمر فترة من الزمن حتى تمّ الاتفاق على قانونٍ جديدٍ لجهاز أمنٍ جديدٍ في منتصف فترة البرلمانية الثالثة، لكن لم يَقوِ عود الجهاز الجديد الذي شارك أحد قياداته وهو إبراهيم نايل إيدام في انقلاب الجبهة القومية الإسلامية تحت مسمى ثورة الإنقاذ الوطني. الجَبهة كَانَ لديها جهاز أمنها الخَاص مُنطلقاً من مكتب المعلومات الذي تَطوّر إلى عدة أجهزة استقرت في النهاية عند جهاز مُوحّدٍ للأمن الداخلي والخارجي، وآخر للأمن الشعبي.
مُراجعة العقيدة المِهنية التي بُني عليها الجهاز الحالي وتحت إشراف السُّلطة المدنية لن يكون أمراً سهلاً. ففي أواخر أبريل الماضي تقدّمت مجموعة من ضُبّاط الرُّتب الوسيطة فما دُون بمُذكرةٍ مفتوحةٍ إلى مدير الجهاز الجديد ويلفت النظر اللغة المستخدمة وافتتاحها بآيتين: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) وأيضاً آية (…. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ…. الآية).
أوضحت المذكرة أنّ الجهاز ظلّ يُقدِّم مُساندته للقوات المُسلّحة والدعم السريع، وأنّه تَعَامَلَ بمهنيةٍ مع الاحتجاجات وعندما وصلت مرحلة الاعتصام الذي شَارَكَت فيه مُختلف فئات الشعب اتّخذ الجهاز دوراً واضحاً بالانحياز الى الثورة ورفض فَضّ الاعتصام بالقوة. وأشارت المُذكرة إلى استهداف الجهاز وعناصره بعد نجاح الثّورة مِمّا أدّى إلى استشهاد وإصابة العديدين في ولايات دارفور وكردفان، سنار، كسلا، القضارف والجزيرة.
ثُمّ تقدّمت المُذكّرة بثلاثة مَطَالَب مُحَدّدة: أن تتم مُتابعة حقوق شهداء وجرحى الجهاز وتقديم المُتسبِّبين إلى العدالة، عدم القُبول بفكرة رفع الحصانة عن أيِّ عضو في الجهاز أو مُحاكمته خارجياً والاقتصار على إجراءات المُحاسبة الداخلية حسب قانون 2010، وتُختتم المذكرة برسالة تحذيرية أنها تلتزم بمُوجِّهات المدير العام في الإطار المعقول وبدون المساس بهيبة المُؤسّسة ومكانتها الاجتماعية.
ونتيجة لهذه المُذكرة تَمّ عقد اجتماع للمدير العام مع منسوبي الجهاز، كما اجتمع معهم نائب رئيس المجلس محمد حمدان حميدتي، لكن يبقى السؤال عن مُستقبل هذه العلاقة تحت إدارة تنفيذية مدنية لها كل السُّلطة.
المُذكِّرة المشار إليها يُمكن اعتبارها، مذكرة نقابية بحق بتحديدها لنطاق عملها وهو حماية عُضويتها. وهذا أمرٌ غير مُستغربٍ بسبب المَكَانَة التي يَحتلها الجهاز في الحَياة العَامّة. وتعطي مُقابلة صحفية نادرة مع الدكتور مُحمّد ميرغني مدير مستشفى الأمل التابع للجهاز صورة عن مكانة هذه المُؤسّسة في المجتمع. المُقابلة التي نشرها المركز السوداني للخدمات الصحفية بمُناسبة افتتاح بعض المرافق الجديدة في مطلع العام 2011 مثل مُجمع العيادات الخارجية وبناء المركز التّشخيصي، وهو أكبر مركز في السودان يَضم كُلّ المُعينات التّشخيصيّة من الرنين المغنطيسي والأشعة المَقطعية والأشعة المَرئية والأشعة السِّينيّة وجهاز المَوجَات الصّوتية، والأخيرين من أحدث الأجهزة في العالم وتُوجد في السودان بمُستشفى الأمل فقط.
أضاف الدكتور محمد ميرغني أنّ عدد أعضاء الجهاز وأُسرهم المُستفيدين من خدمات المستشفى يصل إلى حوالي 77 ألف شخص، بمعنى آخر فإنّ عضوية الجهاز يمكن أن تزيد على 15 ألفاً وذلك على أساس أن متوسط الأسرة خمسة أشخاص. وبهذا العدد (المُستند إلى تقديرات قديمة ربما تَجَاوَزها الوَاقع الحَالي) يتفوّق منسوبو جهاز الأمن عددياً على إجمالي العاملين في الشركة الحكومية سوداتل وأكبر شركتين في القطاع الخاص وهما “دال” و”الشركة التجارية الوسطى” مُجتمعةً، وَهُو مَا يُعطي فكرة عَن حَجم الجهاز ونُفُوذه وتَغلغله في جهاز الدولة وفي الحياة العامّة، إلى جانب امتداداته الإقليمية والدولية، الأمر الذي يتطلب إمعان النظر والتدقيق قبل القيام بخطواتٍ غير مَحسوبةٍ في إطار ضَبط نَشاطه في الواقع الجديد الذي يَتَشَكّل، ولَعلّ في حديث رئيس لجنة حصر ومُراجعة الشّركات الحكومية بمجلس الوزراء محمد الغالي عن وجود 26 شركة تتبع للأجهزة الأمنية والاتجاه إلى تصفيتها في إطار تصفية 105 شركات حكومية خطوة في هذا الاتّجـاه.
(غداً: تجمُّع المهنيين وكاجامي الغائب)

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.