عوض الحسن النور- قاضٍ سابق

الأجهزة العدلية في الوثيقة الدستورية وما يرسم لها!

شارك الخبر

مقدمة
كم أنا حزين بسقوط شهداء من الطلاب بشمال كردفان -الأبيض وهم تلاميذ عزل برصاص من قوات الجيش والدعم السريع حسب ما جاء في الأخبار وفي غياب جهازي النيابة العامة والقضاء والشرطة المستمر عن القيام بواجبهم الدستوري والأخلاقي في حماية الحياة المدنية؟ وقد كتبت كثيراً في أن الحياة المدنية حفظ الأمن بها من واجبات الشرطة تحت إمرة النيابة العامة والقضاء وإذا كان الأمر أصعب فيجب إدخال القوات النظامية الأخرى كشرطة بواسطة السلطات! وقد سعدت بإدانة السيد رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق البرهان قتل المواطنين ودعوته للمحاسبة.. وكم نرجو أن يصدر مرسوم برفع الحصانة عن مرتكبي هذه الجرائم على وجه السرعة.
أذكر في العام ١٩٨٥ / ١٩٨٦ وأنا القاضي المقيم بالأبيض ورغم الأمر المستديم لقوات الشرطة بإبلاغي بوجود موكب أو مواكب، فقد حضر لي مدير شرطة المدينة وأفادني بخروج طلاب خور طقت الثانوية بموكب ودخلوا المدينة وغضبت لتحرك الشرطة لتفريقهم قبل إبلاغي وخرجت معه فوجدت أن الموكب قد تحول لشغب وعم الغضب المدينة وخاصة أن أحد الطلاب قد استشهد برصاص الشرطة. وعندما تحرك أهل المدينة للشرطة أبلغهم مدير شرطة الولاية أن القاضي هو من أمر الشرطة بإطلاق النار!!! فتحولت الهتافات إلى (رأس القاضي مطلب شعبي!) وكم عانيت لحين تصحيح هذا المفهوم وخاصة حسن علاقتي بأهل مدينة الأبيض بل بعثت حكومة الدكتور الجزولي دفع الله بوزير داخليتها المرحوم عباس مدني وبروفسور ياجي لتهدئة الأحوال والاجتماع بالقضاة لحل هذه المعضلة.
فالمجلس العسكري الانتقالي ألم يحن الوقت بعد لإيقاف انتهاك سيادة حكم القانون واحترام الأجهزة العدلية وقيام هذه الأجهزة بواجباتها بدلاً من هذا الانكسار والمذلة والهوان مع الشرطة في إدارة هذه التجمعات لتحقق هدفها السلمي أو تفريقها بما يتناسب دون أن تفقد الأسر السودانية مزيداً من الشهداء. ومحاسبة كل من حرض وأخرج التلاميذ ووجههم نحو السوق والبنوك.

الأجهزة العدلية في الوثيقة الدستورية وما يرسم لها
المعلوم أن في صناعة الدساتير القضاء باب يشكل الجهاز الثالث للدولة، تسعى الجهات المكلفة لدراسة الأنظمة العالمية والتي تطورت بشكل كبير ومتاح كما أن القانون الدولي قد أرسى مبادئ كثيرة..وأعتقد أن الأخوات والإخوة من أهل القانون في اللجنة الفنية لن تفوت عليهم هذه الملاحظات عما ورد في الوثيقة الدستورية.
أولاً: إدارة السلطة القضائية
جاء الفصل السابع من الوثيقة ومن المادة 27 على أجهزة القضاء القومي وتحت عنوان مجلس القضاء العالي:
27 01): ينشأ مجلس للقضاء العالي ليحل محل المفوضية القومية للخدمة القضائية ويتولي مهامها ويحدد القانون تشكيله واختصاصاته وسلطاته.
2: يختار مجلس القضاء العالي رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية ورئيس القضاء ونوابه ومساعديه والنائب العام.
3: لحين تشكيل مجلس القضاء العالي يتم تعيين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية وقضاة المحكمة العليا والنائب العام ومساعديه من قبل مجلسي السيادة والوزراء في اجتماع مشترك.
كما أسندت هذه الوثيقة للأسف في المادة 28 (4) يكون رئيس القضاء لجمهورية السودان رئيساً للسلطة القضائية ورئيساً للمحكمة العليا القومية ويكون مسؤولاً عن إدارة السلطة القضائية لدى مجلس القضاء العالي.
والسؤال الأول والمهم كيف تسند إدارة السلطة الثالثة في نظام الدولة لجسم هلامي ليس بسلطة ومشكل من شخصيات لا تلتئم ولا تجتمع إلا كل ثلاثة أشهر لساعتين؟ والمعلوم أنه بالاطلاع على كل نظم العالم البرلمانية والرئاسية.
كما أن من المسائل الغريبة جداً وفقاً لهذه النصوص أن الوثيقة الدستورية لم تحدد الجهة التي تعين قضاة المحكمة العليا والقضاة الآخرين في الدرجات الأدنى بالإضافة إلى أن النص الوارد في المادة 27 2 أن الاختيار الذي يتم لرئيس القضاء ورئيس المحكمة الدستورية والنائب العام يتم التعيين دون صدور أمر رئاسي كما في النظم الرئاسية أو من الملك كما في بريطانيا آو الأنظمة الملكية كالمغرب والأردن؟؟؟؟؟
لم يرد في الوثيقة الدستورية بل جاءت الصياغة والتي يؤسفني وصفها بالمبهمة أن رئيس المحكمة الدستورية وقضاتها سبقوا رئيس القضاء في الاختيار بواسطة مجلس القضاء العالي في حين أن ترتيب المحكمة الدستورية قد جاء في المادة 29 بعد القضاء القومي!!!!
ثانياً: ما يخيف من الاطلاع الأولي على هذه الوثيقة الدستورية إغفالها لأهم نص يجب توفره في دساتير العالم وهو تحصين استقلال القضاء بمبدأ يمنع عزل القضاة إلا بإجراءات محددة؟ فالشعوب قد جاهدت خلال كفاحها الطويل للتحرر من الأخطار والأهوال والمظاليم والاستبداد في مواجهة حكامها وجلاديها كما أن الجدل لم ينقطع يوماً حول تأمين ما حققته من مكاسب وما ظفرت به من حقوق كانت محوراً لصراع مرير صاغت الشعوب سطوره بمداد من الدماء دفاعاً عن حقها في حياة حرة كريمة آمنة ومتحررة من الظلم والجور والعسف والاستبداد وثالثها أن هذه المكاسب وتلك الحقوق قد شغلت أذهان الفلاسفة والمؤرخين والمصلحين ردحاً طويلاً من الزمن حتى استقر في نهاية المطاف على إيداع هذه المكاسب وتلك الحقوق في وثائق دستورية يكون لها العلو والسمو على ما دونها. كما أن معظم هذه الدساتير في عالمنا المعاصر قد حرصت على النص على مبدأ عدم قابلية القضاة للعزل حيث غدا من أبرز بل والرمز الأكبر من دعامات استقلال القضاء والملموس لوجود سلطة قضائية مستقلة. كما أن هذا المبدأ هو إحدى النتائج الجوهرية لمبدأ الفصل بين السلطات.
فكيف تعطي الوثيقة للسلطة التنفيذية الحق في تعيين رئيس قضاء ورئيس محكمة دستورية ونائب عام وقضاة المحكمة العليا ما لم تكن النية جازمة لعزل شاغليها ودون أن تنص الوثيقة الدستورية على ذلك؟
فما النظام الأمثل لإدارة القضاء؟
إذا كان القاضي هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها خدمة العدالة في أي نظام قضائي ناجح وإذا كان ضمان تحقيق العدالة يتوقف أساساً على حسن وسلامة ودقة اختيار من يتولى القضاء، فلا مناص من التسليم بأن خطورة الرسالة التي يضطلع بها القاضي وثقل الأمانة التي أودعت بين يديه تفرضان أن يكون اختياره من أغزر وأصفى المنابع التي تكفل للقضاء خبرة وعلماً ومسلكاً وأكثرها تأهيلاً واستعداداً لتحمل أمانة العدالة والقيام بأعبائها وتبعاتها الجسام.
إن أسلوب اختيار القضاة يعد من أبواب التأثير في القضاء كسلطة فإذا ما تركت عملية الاختيار للأهواء والنزعات والمؤثرات الحزبية تسرب إلى رحاب العدالة غير الأكفاء الذين لا يقدرون خطورة الرسالة وليس شيء أضر بالعدالة من أن يقوم عليها من لا يدرك كنهها أو لا يشعر بقدسيتها.
إن الأسلوب الأمثل لاختيار القضاة كان ولا يزال من المسائل الدقيقة التي تشغل بال المشرعين والمصلحين لأنه يتصل في كل بلد بتقاليده الموروثة ونظامه السياسي والاجتماعي والقيم السائدة فيه ومستوى الوعي فضلاً عما يترتب عليه من انعكاس بالغ المدى وواسع الأثر على كفاءة القضاة وحيدتهم واستقلالهم.
كما أن أسلوب اختيار القضاة بالانتخاب بواسطة السلطة التشريعية دعك من المعينة وإن كان يؤدي إلى تحرر القضاة من الخضوع لجمهور الناخبين فإنه بغير شك يجعلهم في قبضة السلطة التشريعية الأمر الذي يؤثر على استقلالهم لأنه يهدر الحيدة المفترضة فيهم بوصفهم أعضاء في سلطة ينبغي أن تتوافر لها كل مقومات الاستقلال في مواجهة السلطات الأخرى في الدولة. فضلاً عن هذا الأسلوب يؤدي حتماً إلى سوء اختيار القضاة حيث تسود الاعتبارات السياسية والحزبية. كما أن أسلوب اختيار القضاة بالانتخاب عن طريق الاقتراع العام وإن كان يحقق استقلال القضاء في مواجهة السلطة التنفيذية ويجنب القضاة التأثر بأهواء الحاكمين، إلا أنه يخضع القضاة لسلطة الناخبين ويوقعهم في مهب أهوائهم وقد تكون أقسى وأشد على ضمائرهم.
مما تقدم ولما عليه أكثر النظم ديمقراطية هو تعيين القضاة عن طريق السلطة التنفيذية كما وجد استحسناً وتأييداً من جانب الفقه لأنه يتلافى إلى حد كبير الانتقادات التي وجهت لأسلوب انتخاب القضاة فقط على السلطة التنفيذية أن تضبط بواسطة الدستور والقانون القواعد التي يتعين على السلطة التنفيذية اتباعها عند الاختيار ويضبط في جلاء معايير الأهلية والصلاحية التي تستلزم توافرها في المرشحين لتولي مناصب القضاء.
كما أن النظام القضائي في السودان يحتاج أمر ودراسة نظامه المالي والإداري لنظر حيث أصبح دور كثير من رؤساء القضاء وقضاة المحكمة العليا قد اهتموا وانشغلوا بالعمل الإداري دون القضائي. كما أن نظام العمل في المحاكم وخاصة المحكمة العليا والاستئناف وتخلفه لتخلف القانون من المسائل التي يجب أن تنص الوثيقة على اقتراح حلول عملية لها.
واختم هذا المقال بأن لنظام الحكم دور كبير في تحديد القضاء فإذا ما أخذ الدستور بالنظام الفيدرالي ابن المحاكم الولائية؟ كما أن دور المحكمة الدستورية قد نسخ من دستور السودان الانتقالي 2005 دون تقييم دورها في الحياة السياسية والقانونية.
وأرجو ألا يمنع صمت قضاة المحكمة الدستورية والقضاء القومي رغم أن عدد الأخيرين أكثر من ألفي قاض في كل الدرجات والنيابة العامة في أن يكون لهم دور في تحديد مستقبلهم بالمشاركة مع أعضاء اللجان الفنية.
نواصل بإذن الله

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.