عادل إبراهيم حمد

الحيرة في وصف الشعب السوداني

شارك الخبر

بعد نجاح الثورة الشعبية السودانية في اقتلاع نظام الإنقاذ, حرص كتاب سودانيون كثر على التذكير بأن هذه الثورة هي الثالثة في تاريخ السودان الحديث, كدليل على عبقرية هذا الشعب وعلى توقه الأصيل للحرية. وحق لهؤلاء الكتاب أن يتباهوا بالشعب الذي ينتمون إليه, وبمعالم تميز مسيرته وبصفات يختص بها دون غيره .. لكن نسبة معتبرة من ذات الكتاب يشاركون في مناسبات أخرى بمقالات تصف الشعب السوداني بأنه شعب كسول (ينام) على أرض واعدة بالخير, فلا ينعم بخير أرضه شاكياً الفاقة وكل تبعات الفقر؛ فيحتار القارئ لأي الفريقين ينحاز : لمن يزعم عبقرية هذا الشعب الموصوف بالمعلم, أم للفريق الآخر الذي لا يعدم حججاً حين يدعي أن السودانيين كسالى متواكلون لا يأبهون بالوقت ويتبرمون من ضوابط العمل ؟
الشعب السوداني ـ كغيره من شعوب الأرض, يحمل مزايا ويتصف بسلبيات. وعليه يفترض أن توظف المزايا وتوجه للبناء, مع معالجة السلبيات بلا أي ميل للبكائيات اليائسة التي توحي وكأن سلبيات السودانيين ـ دون غيرهم من شعوب الأرض, قدر حتمي لا فكاك منه.
هذه النظرة المتأرجحة بين المدح المفرط والاستسلام لقدرية السلبية السودانية, تفسرها النظرة الجزئية التي يتصف بها كثير من المثقفين السودانيين, فتركز المعالجة على جانب وتغفل آخر, رغم أن هذا الأمر المهم يحتاج لنظرة كلية محيطة .. بهذه الطريقة الجزئية يعجب المثقف السوداني أيما إعجاب بالمجاملة السودانية, ويتفنن في إيراد نماذج من مجاملات السودانيين في الأفراح والأتراح, وكيف أنهم لا يكتفون عند مواساة أهل الميت بالتشييع إلى المقابر, بل يقضون بقية اليوم في (صيوان) العزاء ثم يعودون عند رفع الفراش . وفي مناسبات الأفراح يسافرون لمدن وقرى بعيدة لإشعار أهلهم البعيدين بالإعزاز, فيدفعون المال ويرقصون و يزغردون, وتهون عندهم متاعب الأسفار وإنفاق المال ما داموا قد جاملوا الأهل وجبروا الخواطر .. ذات الشخص المعجب بهذه الصور الاجتماعية الباهرة ينتقد السودانيين الذين يطيلون الغياب أثناء ساعات العمل, متناسياً أن الغائبين عن العمل هم الذين يشكلون حضوراً لافتاً في صيوان العزاء وفي صالة الأفراح .
تعزى هذه الرؤية المضطربة إلى المنهج الجزئي الذي لا بد من أن يستبدل برؤية تخلق التوازن المطلوب الذي يحفظ للسودانيين قدراً معقولاً من إرثهم في التواصل الاجتماعي مع مواكبة لمستجدات المجتمع الحديث من ضوابط في شتى مناحي العمل والإنتاج تعين على تقديم هذه الرؤية تجربة السودانيين في المهاجر حيث خضعوا ـ طائعين أو مجبرين للضوابط والتعليمات, واحتفظوا بتقاليد اجتماعية سمحة جاءوا بها من وطنهم, حتى لفتوا انتباه وإعجاب الجاليات الأخرى وهي تتابع تكاتف وتكافل السودانيين الذين يعودون المريض ويواسون المكلوم ويجمعون التبرعات لإعانة محتاج أو سداد دية أو سفر شخص تقطعت به السبل. وهم في كل هذه الأمثلة من التعاون والإيثار لا تربطهم صلة قربى أو معرفة بالشخص المعني, إذ يكفيهم صدور النداء عن سوداني لإغاثة سوداني لم يروه ولن يروه.
أثبتت تجربة المهاجر أن هذه الخاصية أصيلة لدى السودانيين, ويمكن تطويرها عبر العمل الجماعي الطوعي من خلال المنظمات والجمعيات الخيرية بدلاً عن جهود فردية لن تثمر مشاريع ضخمة مهما كانت الجهود ومهما حسنت النوايا. كما أكدت التجربة أن دعوى الكسل ليست دقيقة, وأن الصحيح هو أن السوداني (ماهل). وهي صفة تعود إلى مجتمع زراعي أو رعوي بسيط كان يعيشه السودانيون قبل التعقيدات التي طرأت على المجتمعات التقليدية. لم يكن الناس حينها كثيري الحاجات, إذ يكفيهم ما يحصدونه في موسم الحصاد, ثم يقضون بقية العام في استرخاء, يجاملون بعضهم بعضاً بلا أدنى إحساس بأنهم في حاجة لهذا الزمن الفائض. هذه (المهلة) قد تكون مدخلاً للكسل, وقد تكون أساساً للتأني والتجويد, فيكون الماهل مهيأ للإتقان إذا دُرب وأُهّل.
يأبى الرمز الوطني الباذخ إسماعيل الأزهري إلا أن يكون حضوراً في التمييز بين الكسل والتمهل. فقد عرف الزعيم ـ عندما كان معلماً للرياضيات ـ بأنه كان يطيل شرح المسألة الرياضية ويعيده, فوصفه المفتش الإنجليزي الذي كان يتابع الحصة بغرض تقييم أداء المعلم, وصفه بالبطء: (You are slow) فأجاب المعلم على الفور ( Slow but sure) ليعبر بدقة عن المهلة المفضية للإتقان .
عندما يضطلع المثقف السوداني بدوره المنطلق من منصة الوعي المميزة للمثقف عن العوام, سوف نتجاوز النظرة الجزئية ويفرز المثقف الخيوط ببصيرة, مغادراً موقعه الحالي حيث يشارك العوام مواقعهم ليطلق انطباعات عابرة, أو أحكاماً معممة مثل القول إن (كل) الأنظمة الوطنية شريكة في ما آل إليه حال السودان, موحياً بالعدالة حين يوزع المسؤولية بالتساوي. ولا يخفي ما في الرأي من تعجل لاذ به صاحبه عله يعفيه من مشقة التمحيص الدقيق, فتعجل المساواة بين الذي قبل مبدأ الحرية, والذي ادعى ترشيد الديمقراطية معتمداًً السجن والمشنقة والدروة .. وفي موقع آخر يستسهل القول : إن مشكلة السودان تكمن في الشخصية السودانية؛ ليُفهم المتلقي ضمناً بألا يتعلق بوهم إمكانية حدوث نهضة في السودان ! وهو عذر مسبق يسوقه المثقف عله يعفي نفسه من مسؤولية البحث والدراسة لتقديم رؤى تكشف قوى الدفع في المجتمع, فتنهض به وتضع الوطن على مراقي التقدم.

شارك الخبر

Comments are closed.