الدكتور/ محمد علي عبد الجابر

مُوسـى الوَحيد

شارك الخبر

ظَلّ موسـى الوحيد حالة عاطفية ووجدانية انتزعت منه كل قُدرات العطاء والفعل بحكم السن, وظلّ الوفاء للناس والمكان هو القيمة الوحيدة النّابضة في نفسِه والتي بقيت محل احترام وتقدير الناس له، وشفقتهم عليه، ومد يد الرحمة بعد أن تدنّت فيه كل قُدرات العمل إلى درجة التقاعُد, فعيّنوه [خفيراً] يحرس العربات التي تبيت ليلاً في سُوق القرية, مع قناعة أصحاب العربات أنّه إذا تمّ أيِّ اعتداء على عرباتهم، فإنّ موسـى سيكون أول ضحايا الاعتداء فليست له القدرة على الدفاع عن نفسه، ناهيك عن عرباتهم.
ورغم ذلك ظَلّ موسـى مُلمحاً أصيلاً في تفاصيل قريتنا، يلتف الناس حوله في [العصاري] تستهويهم رائحة البُن والجنزبيل والطُقُوس المُتأنية في صناعة [الجَبَنَة] ومن ترتيب معهود في إعداد الفناجيل في المنضدة القصيرة [وهَبّابة] السعف التي تزيد من انقاد النار، وكان موسـى يُجسِّد الصبر في تلك اللحظات [ويربت] على يد العطاء كقيمةٍ تحفظ كيان المُجتمع، ووجوده والناس من حوله تستهويهم [النُّبل] في هذا الإنسان البسيط في عالم تطحنه المَصَالِح وَتَتَدرّج وتنحسر فيه القيم الإنسانية.
هكذا ظلّ موسـى لا يجد إلاّ أن [يلُوك] الصّبر وذكرياته مع الناس والمَكان يوم أن كَانَ يأتي مع نفرٍ من أبناء قبيلته كعُمّال في مُوسـم جني القطن لمشروع حلفا الجديدة، وكان موسـى يوم ذلك يمتلئ حيويةً وشباباً وأحلاماً وتطلُّعاً ورغبةً في العيش السعيد, وسُرعان ما تبدّدت عنده غربة المكان والناس بفضل العُشرة والصُّحبة والصَّداقة، ولأنّ الود عودٌ أخضر والفرع ينبت بعد وُدٍ, امتدّت بين موسـى والمكان والناس أواصر من الحُب والعشق زادتها السنوات قُرباً وإلفةً, وكان مشروع حلفا الجديدة آنذاك نَاهِضاً وقَوياً ومُمتداً يُوفِّر العيش الكريم وستر الحال ذاتها وكل القادمين إليه, كلٌّ يجد فيه مُبتغاه ويمتد خيره لكل قطاعات وشرائح المُجتمع.. الجَرّارَات التي تَعمل في تحضير الأرض.. المُزارعون والعُمّال مَن يفلحون الأراض ومَن ينظِّفونها من الحشائش الضارّة ومَن يَجنون الثمار بعد نُضُوجها.. عربات نقل المحاصيل.. عُمّال الشحن والتفريغ.. كل هذه الشرائح يبعث فيها الحياة بفضل المُوسم الزراعي ويدخل الفرح في كل بيت انساً وحبوراً وسعادةً باقتران البنين والبنات في زيجات تتعالى زعـاريدها وتمـلأ الآفَـاق, فأيّـام القريـة تنتقـل مـن عرسٍ إلى طَهُورٍ إلى خُطوبة وموسـى الوحيد ليس معزولاً عن هذا الجو العام الذي يعتري قريتنا في الموسم الزراعي, فهو ينفعل معه لدرجة أنه تعلم بعض إيماءاتنا النوبية، بل أصبح جُزءاً منها, وبذات القدر تتقدّم به السن كطبيعة الأشياء وبدأ عدد الذين يأتون في المُوسم يتناقص سنةً بعد أُخرى, إلا أنّ موسـى ظَلّ مُتمَسِّكاً بالحُضُور للمشروع في بداية المُوسم, ومع تقدُّم سنّه آثر الإقامة الدائمة بالقرية دُون الرجوع إلى بلده فى نهاية الموسم, إلا أنّ حواجز اللغة وبعض العادات والتقاليد وعامل السِّن كلها جعلت موسـى ينفرد بذاته دائماً ويسرح بعيداً ربما يُمارس نقد الذّات ويُعاقب نفسه, لعلّه ما كان يتمنّى أن تسير حياته، هكذا, استمرأ موسـى هذا الانعزال ليُحظى من أهل القرية بلقبٍ جديدٍ فَسَمُّوه [موسـى الوحيد].

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.