التجاني عبد القادر حامد

لمحة من التراث … في مواجهة العدوى

شارك الخبر

في سعيهم المتصل للمحافظة على الحياة، وفي تضييق السبل المؤدية لهلاك الأنفس، لم يكتف المسلمون باكتشاف العقاقير وبناء المستشفيات، وإنما تعرفوا على أنواع الأمراض التي تنتقل بالعدوى، فابتكروا نظام الحجر الصحي، حتى لا يختلط المرضى بالأصحاء فيزداد عدد الموتى، مهتدين في ذلك بسيرة رسولهم الكريم، فقد روى أنه قال لأصحابه: ” إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها” (البخاري)؛ ونصحهم “بأن لا يوردن ممرض على مصح (البخاري ومسلم)؛ وعلم أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه من يخبره “إنا قد بايعناك فارجع” (مسلم). وسرعان ما تحولت هذه التوجيهات النبوية إلى رؤية فكرية عامة مفادها أن التطبيب لا يتعارض مع مشيئة الله أو التوكل عليه (كما شاع في بعض الثقافات)، إذ إن أقدار الله تدافع بأقدار الله، وأن على المؤمن أن يفر من قدر الله إلى قدره، كما جاء في عبارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد عوتب على فراره من الطاعون. وقد عبر ابن قيم الجوزية عن هذا المعنى أحسن تعبير حين يقول: “فإذا جاء قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه … ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره. وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله… فينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله. وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض. فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه. فإن غلبه وقهره، حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك. فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أمر؛ بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطها حقها، لزمه التعطيل للقدر أو الشرع، شاء أو أبى”.
وفي ضوء هذه الرؤية المنفتحة والمتفائلة وضع المسلمون قواعد الطب الوقائي والحجر الصحي، ثم حولوا تلك القواعد إلى مؤسسات صحية راسخة، فقد بني أول مستشفى خاص بالمجذومين في عهد عبد الملك بن مروان قبل نهاية القرن الأول الهجري (توفي عبد الملك سنة 86/705)، وقد أبدى اهتماما خاصا بهم، ومنعهم من سؤال الناس، ووقف عليهم بلدا يدر عليهم أرزاقا، كما أمر لكل مقعد خادما، ولكل ضرير قائدا. وأنشئت في بعض المستشفيات أقسام خاصة للأمراض العقلية، وقد أشار الى بعضها الرحالة ابن جبير، واصفا أنواع الرعاية التي تقدمها، كأن “يخصص للمريض مرافق يأخذه باللين والرفق، يصحبه في الحدائق بين الخضرة والزهور، ويسمعه ترتيلا هادئا من آي الذكر الحكيم، تطمئن به القلوب وتهدأ به النفوس”.
قلت: ليتنا حينما تنكشف هذه الغمة نستأنف هذه المسيرة الحضارية. ودعوت: اللهم إنا نسألك الرحمة واللطف فيما قضيت، ونعوذ بك من أن تهلكنا بطاعون أو كورونا، وأن تدخلنا في رحمتك التي وسعت كل شيء.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.