في طريق الأذى.. هنالك ضوء آخر النفق

هشام الخليفة

عرف الانسان الوظيفة منذ عهود سحيقة ففي الدولة الفرعونية تم إلحاق الكثيرين بالعمل في دواوين الحكم وقد وجدت في بعض البرديات القديمة كتابات تمجد العمل وتعظم من قيمته.
كتب في واحدة منها بالهيروغليفية (اجتهد في كل وقت، افعل اكثر مما هو مطلوب منك فالعمل يأتي بالثروة والثروة لا تذهب الا اذا هجرت العمل).
واستمر الحال على مر العصور والدهور في الدولة الإسلامية وما بعدها. عرف السودان التوظيف حيث أدخل الأتراك ثم الإنجليز نظم الإدارة الحديثة وبعضها مازال ساريا حتى الآن.
يستحق العامل أو الموظف الذي أكمل سنة أو أكثر من الخدمة المستمرة مكافأة نهاية الخدمة عند انتهاء خدمتة بالاستقالة أو الإقالة وتحسب طبقا للراتب وسنين الخدمة التي قضاها العامل أو الموظف على رأس العمل. يترك العامل أو الموظف العمل بمحض ارادتة واحيانا أخرى مرغما اخاك لا بطل حيث يتم الاستغناء عنه بحجج مختلفة أبرزها (للأسف الشديد) الخلاف السياسي.
على طول وامتداد العهود السياسية المختلفة تم استخدام هذا السلاح لتصفية الخصومات السياسية واحيانا الشخصية. استخدم هذا السلاح بعد ثورة أكتوبر٦٤ في ما عرف بـ(التطهير) فابعد اليساريون الذين كانوا يسيطرون على المشهد السياسي كفاءات نادرة من خصومهم الفكريين في الخدمة المدنية والجامعات. غير أن الترخيص في استخدام هذا السلاح تم في مذابح ما عرف بـ(الصالح العام) الذي أطاح فيه الانقاذيون بآلاف الرقاب لمجرد الاختلاف الفكري والسياسي وتحضرني بهذه المناسبة قصة كنت شاهد عيان عليها.
في بداية التسعينات كنت اقضي اجازة في مدينة (لاهاي) في هولندا. قابلت هنالك مجموعة خيرة من أبناء السودان يدرسون للماجستير في منح من الحكومة الهولندية في معهد يسمى ISS وهي اختصار لـ(معهد الدراسات الاجتماعية) كانت حكومة السودان تمنح هؤلاء المبتعثين إعانة مادية شهرية تساعدهم على تدبر أمورهم بينما توفر لهم هولندا الدراسة الأكاديمية. تفاجأ هؤلاء الإخوة جميعا بقطع المعونة المادية عنهم وفصلهم من الخدمة ولم يشفع لهم وجودهم خارج السودان (لمن هبت ثورة الإنقاذ وقام الجيش للشعب انحاز). كان كل ذلك بسبب اختلافهم الفكري والسياسي مع اهل المشروع الحضاري.
من بين هؤلاء الإخوة واحد توثقت علاقتي معه فأصبحنا أصدقاء. كان هو على وشك الانتهاء من رسالة الماجستير وهو بحث هام في كيفية الإكثار من الإنتاجية من القمح في الفدان الواحد. يحكي لي هو أن البروفسير المشرف على الرسالة كاد يصاب بالجنون وهو يرى أن الخلاف السياسي حرم السودان من كفاءة في تخصص نادر. عمل البروفسير جهده حتى استطاع توفير وظيفة لاخونا الذي قطعت عنه المنحة في نفس المعهد الذي يدرس به خصوصا وهو قد أجاد اللغة الهولندية. كان الراتب مجزيا للغاية ويساوي اضعافا مضاعفة من الجنيهات التي ضن بها عليه اهل المشروع الحضاري فتحسنت ظروفه المادية واستطاع استقدام أسرته وسرعان ما تم منحه الجنسية الهولندية والتحق أبناؤه بالمدارس والجامعات فيما بعد هناك وتغيرت حياتة تغييرا شاملا وهكذا فإن الله يفتح ابوابا أمام العبد كلما أغلق البشر بابا.
مثال آخر من مطاريد الإنقاذ رجل تربطني به صلة كان يعمل استاذا في إحدى الجامعات الحكومية الكبيرة تم فصله من الخدمة برغم انه كان رجلا معتدلا ليس له خصومة سياسية مع أحد وربما راح ضحية كيد شخصي من عدو. المهم أن هذا الأستاذ وبمساعدة من إخوانه استطاع (التسلل) خارج السودان إلى امريكا حيث التحق فيها بأحد المراكز البحثية المتقدمة في تخصصه وبما أنه كان مبرزا في مجاله فسرعان ما اكتسب شهرة اجتذبت أحد شيوخ الخليج فالتقطه من هناك وألحقه بإحدى شركاته الكبرى في مجال الإنشاءات.
اعجب الشيخ بإنجازات الأستاذ المطرود من نعيم الإنقاذ فأغدق عليه الأموال الطائلة خصوصا بعد أن استطاع إنقاذ الشركة التي يعمل بها من غرامة بملايين الدولارات كادت تلحق الأذى بالشركة وسمعتها. استطاع صاحبنا في فترة وجيزة أن يجمع ثروة هائلة مكنته من بناء فيلا في ارقى أحياء العاصمة بالحديقة الغناء وحوض السباحة بينما الأبناء الآن يتلقون الدراسة في ارقى الجامعات الأوروبية.
(جنابو) كما أطلق عليه كان يعمل في احدى القوات النظامية. كان مبرزا في عمله يتلقى الإشادة تلو الإشادة من رؤسائه في العمل. تفاجأ ولم يتفاجأ بورود اسمه في أول كشف لمذبحة ما يسمى بـ(الصالح العام) وذلك لبعده عن اهل المشروع الحضاري. لم يجلس في المنزل يندب حظه العاثر وإنما (اقتحم) السوق الذي خبر دروبه وكون فيه علاقات ابان فترة عمله في الحكومة وفي نفس الوقت التحق بإحدى الجامعات لدراسة (القانون) الذي يرتبط مباشرة بمجال عمله السابق. سرعان ما تخرج بتقدير ممتاز ويمم وجهه شطر الخليج حيث التحق بوظيفة لا علاقة لها بمجال تخصصه مباشرة ولكنها كانت تدر عليه أموالا مكنته من إعانة اسرته بل وبناء منزل متعدد الطوابق فعاد للسودان والتحق بنفس الجامعة فاحرز دراجة الماجستير والدكتوراه في تخصص نادر وهو الآن يستمتع بعوائد ما بعد الخدمة التي لم يجدها من عمله في الحكومة وإنما من بها الله عليه من غيرها ف(نام في السرير وتغطى بالحرير).
كان صاحبنا هنا يعمل أيضا استاذا في احدى الجامعات المرموقة. أطاح به سيف الإنقاذ الباطش برغم عدم انغماسه في السياسة بصورة مباشرة. كانت الكليات الجامعية الخاصة في بداياتها فالتحق باحداها مما مكنه من اعالة اسرته الصغيرة والإنفاق عليها. وظف علاقاته مع الجهات العلمية في الخارج التي له معها صلات واتصالات. سرعان ما جاءه عرض مغر من جامعة أوروبية كبرى مما أدخل الفرح على أفراد الأسرة وبدأوا يعدون العدة لايام من الهناء والحبور ووداع حياة الكفاف. أكمل كل الاجراءات وودعته الأسرة فى المطار وجلس في كرسي الطائرة (يحلم بالمستقبل) ولكن لان (الحلو ما بيكملش) سمع اسمه في مايكرفون الطائرة طالبين منه التقدم لاحد المضيفين ومن هناك لمكتب الأمن في المطار ومنها لمقر الأمن حيث قابل (كبير البصاصين) الذي اشبعه سخرية واستهزاء ثم تكرم عليه بسيارة تقله مع حقيبته البائسة إلى منزله تصحبه السلامة.
عاشت الأسرة أياما حزينة وانهارت كل الأحلام الوردية التي بنوها في الأيام الفائتة ولكن لأن الله ليس بظلام للعبيد فسرعان ما فتح له بابا آخر وحينها كان اهل المشروع الحضاري في (استراحة محارب) بعد أن وطدوا أركان حكمهم وتركوا القطط تبحث عن رزقها في فجاج الأرض. التحق بجامعة مرموقة في الخليج براتب يسيل له اللعاب واستطاع استعدال السفينة التي عصفت بها رياح الانقاذ الهوجاء فبنى منزلا فخما في واحد من ارقى أحياء العاصمة والآن هو يعيش عيشة هانئة لا ينغصها شيء سوى انقطاع التيار الكهربائي ولسعات البعوض القارصة حينما يجلس هو والأسرة لشرب شاي المغرب في حديقة المنزل الصغيرة الغناء وهو يترنم في أسرة:
عود لينا يا ليل الفرح
داوي القليب الانجرح
خليهو يفرح مرة يوم
طول عمرو ناسيهو الفرح
وها هو قد استراح واراح أسرته الصغيرة. كل الأبواب تغلق إلا باب الله.. توكل على الله ولن يخيب ظنك إن شاء الله وسلامتكم.
* القاهرة/ العيلفون

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.