دبلوماسيون في ساحة الاعتصام

محمد عثمان(دبايوا)

شارك الخبر

منذ بداية الاعتصام الثوري أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، لفت نظر الكثيرين صور بوسائل التواصُل الاجتماعي تبيِّن عدداً من السفراء الغربيين يجلسون وسط جُمُوع الثُّوّار في أريحيةٍ تامةٍ. وسَمعنا من بعض المُعتصمين أنّ بعض هؤلاء السُّفراء سَارَ أبعد من الحُضُور الى حَدِّ تزويد الثُّوّار الذين يقومون بتأمين منطقة الاعتصام بأجهزة الكشف عن الأسلحة. وقد قام تلفزيون السودان مُؤخّراً ببث مقاطع لوجود هؤلاء الدبلوماسيين وسط الثُّوّار، واتّهمهم بإدخال مُخدّرات وأسلحة ومبالغ مالية بحجّة التّضامُن مع الثُّوّار.
أثار منظر هؤلاء الدبلوماسيين منذ أول يومٍ استيائي وآخرين، وبمُناقشة الأمر مع بعض الأشخاص من المُعتصمين وغيرهم، وَجَدت الكَثير من الذين يُوافقونني الرأي والقليل الذي يُخالفني. ومحور النقاش كان كيف يسمح الثُّوّار بأن يجتمع بهم هؤلاء، وأن يسندهم ويدعمهم من يَجر وراءه تَاريخاً طَويلاً من إسكات أصوات الثُّوّار وإخماد الثورات ووأدها.
فتاريخ السودان خاصةً وأفريقيا عامةً، ملئٌ بالقصص والحكايات عن الثورات ورموز الثورات، وكيف أن السُّفراء المُندسين في ساحة الاعتصام من سلالة ودول وحكومات من قَتلوا وسَحلوا وأذابوا أجساد جُدودهم الذين ثاروا ضدهم وناضلوا من أجل استقلال بلادهم من نير العبودية والاسترقاق.
ذاكرة التاريخ
لن ينسى التاريخ سيرتهم ووحشيتهم. هل قرأ أبناؤنا سيرة أسلافهم من الثُّوّار! وماذا فعل البريطانيون بأهلنا في كرري وأم دبيكرات، حيث جرّبوا فيهم أحدث الأسلحة “المكسيم” والكيماوية من أجل وأد الثورة. ولاحقاً بعبد القادر ود حبوبة وثوار اللواء الأبيض على رأسهم علي عبد اللطيف وكيف دفنوهم بالمدفعية تحت أنقاض مُستشفى النهر.
فهل قرأ ثُوّار الاعتصام كيف سحق الإيطاليون، الثورة الليبية وكيف شنقوا رمز الثورة عمر المختار بطريقة حاقدةٍ! أم سيرة مقتل أحمد عرابي في دنشواي بمصر وكيف تخلّصوا منه! أم نضال الثائر الكونغولي باتريس لوممبا من أجل استقلال بلاده من القَبضة البلجيكية وكيف ذوبوا جسده في الحَامض! وكذلك الثائر أرنستو شي جيفارا الذي جالدهم من أجل حقوق الشعوب المُستعمرة وكيف لاحقوه حَتّى قَضوا على شُعلة الثورة في غابات بوليفيا! وكيف أباد الأمريكان البيض، الهنود الحُمر في معركة وونددني وكل ذنبهم أنهم كانوا يُدافعون عن أراضيهم ليس إلا.
وحتى أولئك الذين لم يقتلوا ذاقوا الأمرين من دول هؤلاء السفراء من سجونٍ وتعذيبٍ، فجوموا كينياتا ونلسون مانديلا وأحمد بن بلا أمثلة من دول الجوار. والنماذج تطول من حول العالم وخَاصّةً العالم الثالث، التي تَعكس أحقاد هؤلاء مهما غلّفوا أفعالهم بورق السلوفان وباقات الورد. فعبر التاريخ كانت أيديهم مُلطّخة بدماء الثُّوّار، فكيف يعن لنا أن نُصَدِّق بعد كل ما ذقناه منهم أنهم يدعمون الثُّوّار والثورة، إلا إن كان الأمر لحاجة في نفس يعقوب، وفي كل الأحوال هي حاجة لا تَخرج عن أهداف مَصالحهم الخَـاصّـة ومَطامعهم في موارد وخيرات البلاد.
تَدخُّلٌ سَافرٌ في الشأن الداخلي
فاندساس هؤلاء السفراء في زحمة الثُّوّار يُعد مثالاً واضحاً لا لَبس فِيهِ عن التّدخُّل في الشُّؤون الداخلية للبلاد، وكَانَ الكَثير من النّاس يَستغرب كيف ألا تقوم قيادات قِوى الحُرية والتّغيير بتنبيههم بعدم التّواجُد في سَاحة الاعتصام باعتبار أنّ ما يحدث شأنٌ داخليٌّ. ومن جهةٍ أخرى يُثير تواجدهم مع الثُّوّار الشُّكوك حول العَمَالة والتخابر مع دول أجنبية وهو أمرٌ لا يخدم قضية الثوار وقد يُستغل ضدهم. فالسفراء حول العالم، قمة جبل الجليد ودائماً تختبئ تحت عباءاتهم جُيُوشٌ من عُملاء المُخابرات والجواسيس. ولا أعتقد أنّ أيّاً من السفراء أو القائمين بالأعمال الذين تردّدوا أكثر من مَرّةٍ على مكان الاعتصام قد طلبوا إذناً من أحدٍ. ولا أحدٌ يَعلم ماذا كانوا يُحيكون وماذا كانوا يُخطِّطون!
رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قال إنّ الاعتصام كان ساحةً للأجانب والمُخابرات، وكذلك اتّهم نائب رئيس المجلس الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، سفراء دول أجنبية ساهموا في دمار وخراب بعض البلدان بالسعي لتنفيذ مُخطّطات ومُؤامرات بالبلاد. وقال إنّ هناك سفراء دول موجودون الآن بالخرطوم خربوا ودمّروا بلاد وتم طردهم منها. فإن كان الأمر كذلك لماذا تقاعسنا عن اتّخاذ إجراءات بمُستوى الحدث؟ فالأمر يتعلّق بالأمن القومي للبلاد.
اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية
وان دافع بعض الثُّوّار المُتحمِّسين عن وجود السفراء كرسائل دعمٍ لهم، فهم مُخطئون، فالأعراف الدبلوماسية لا تسمح لسفير دولة في دولةٍ أُخرى الحُضُور أو المُشاركة في تظاهراتٍ أو احتجاجاتٍ سياسيةٍ أو مَطلبية في الدولة المُضيفة وإن فعلوا ذلك فإنّه يتم بإخطارٍ مُسبقٍ وبمُوافقة السلطات المعنية، إذ أنّ هناك بروتوكولات دولية تُحدِّد دور ومهام الدبلوماسي في الدول المُضيفة.
فاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961 هي اتفاقية دولية تُحَدِّد الإجراءات والضوابط الخَاصّة بالعمل الدبلوماسي بين الدول، وتُبيِّن الحُقُوق والواجبات الخَاصّة بأفراد البعثات الدبلوماسية.
فالمادة (41) من الاتفاقية تنص على أنّه “مع عدم المساس بالمزايا والحصانات على الأشخاص الذين يتمتّعون بها، احترام قوانين ولوائح الدولة المُعتمدين لديها، وعليهم كذلك واجب عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة وكل المسائل الرسمية المعهود بحثها لبعثة الدولة المُعتمدة مع الدولة المُعتمد لديها يجب أن تبحث مع وزارة خارجية الدولة المُعتمد لديها عن طريقها أو مع أيِّ وزارة مُتّفق عليها”.
فهل تسمح فرنسا للسفير السوداني الانخراط في احتجاجات السترات الصفراء؟ وفي إيطاليا الاجتماع مع انفصاليي رابطة الشمال في الشمال وحركة استقلال صقلية في الجنوب؟ وفي أمريكا التّواجُد مع حركة تكساس القومية الانفصالية التي تُطالب باستقلال ولايتها عن البلاد، أو في بريطانيا لدعم الحزب القومي الأسكتلندي للانفصال من المملكة المتحّدة والشين فن سابقاً؟
شخصٌ غير مرغوبٍ فيه
ولا أدري لماذا تَجاهلت وزارة الخارجية الأمر وتحرّكت بعد أشهرٍ، مُحذِّرةً السفراء من دخول منطقة الاعتصام، وكان الأجدر بها اتّخاذ إجراءات أكثر صَرامةً ضدهم حتى إذا اضطر الأمر لإبعادهم عن البلاد. فالأمثلة كثيرة من حولنا، كيف حسمت بلدان بعض سفراء دول أحست بتدخُّلهم في شؤونها الداخلية ولو من بعيدٍ.
فالمادة (9) من اتفاقية فيينا تقول إنه “للدولة المُعتمد لديها في أيِّ وقتٍ وبدون ذكر الأسباب أن تبلِّغ الدولة المُعتمدة أنّ رئيس أو أيِّ عُضو من طاقم بعثتها الدبلوماسي أصبح شخصاً غير مقبولٍ، أو أنّ أيِّ عُضو من طاقم بعثتها (من غير الدبلوماسيين) أصبح غير مرغوبٍ فيه، وعلى الدولة المُعتمدة أن تستدعي الشخص المعني أو تنهي أعماله لدى البعثة وفقاً للظروف”.

فما الذي يمنعنا من تطبيق هذه الفقرة، إذ أنّ نفس هؤلاء السفراء ماضون في غيِّهم بالتّصريحات والمُدوّنات والتدخُّل في شأننا الداخلي حتى بعد الاعتصام؟ فالاتفاقية تمنحنا حق الإبعاد وإعلانهم بأنّهم Persona non grata وحتى بدون ذكر الأسباب.. فلماذا نحن محجمون ولدينا من الأسباب والوثائق ما يُبرِّر ذلك..؟!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.