د. الخِضر هارون

أصلح الله الحال!

شارك الخبر

قال: كَانَ جدي عبد الحكيم نسيج وحده في بلدنا وفي المنطقة بأسرها، حتى اسمه لم يكن من الأسماء المَطروقة المَألوفة هُناك. قالوا إنّ أباه الشيخ كان قد استضاف شيخاً أرسله الأزهر الشريف للوعظ في شهر رمضان وكان من قرية في صعيد مصر يُقال لها (زينة) اسمه عبد الحكيم صَادَفَ مكثه في قريتنا، ميلاد جدي فأسموه وراءه، فما عُبد من الأسماء عندنا لم يجاوز كثيراً عبد القادر وعبد الله وعبد الرحمن وعبد المنان. وامتد العُمر بِجدي حََتّى تَجَاوَز الخامسة والتّسعين. سَافَرَ شَرقاً وغَرباً ونَهلَ من العُلُوم والمَعَارف الكَثير واحترف كلّما يخطر لك على بالٍ: بناءً وحداداً ونجاراً، نادلاً في الحانات والمقاهي وحمّالاً في عددٍ من موانئ الدنيا، مؤذناً وإماماً. واحتطب من عالم الأفكار ما شاء الله من أفكار ونظريات فاعتنق الماركسية بتطبيقاتها السوفيتية ثم الصينية وامتشق حسام النضال في فيتنام وإريتريا وصادق (شي جيفارا) زماناً وتبجح وتباهى بإلحاده واحتقاره للأديان كلها. ولما اكتهل حمل عصاه على عاتقه واتّجه غرباً حِسّاً وفِكراً ونصب خيمته في مدينة النور، باريس عاصمة الثقافة يومئذٍ يقضي سحابة يومه بين مقاهيها التّاريخية يُخال نفسه في مَعِيّة فيكتور هوغو فيغرقه الخيال الجامح في أزقة البُؤساء وهُم في أسمالهم الرّثة المُمزّقة يتكفّفون الناس لقمة جافّة تقيم الأود, حتى يُوقظه النادل ليحتسي أقداح القهوة المُعتقة ثُمّ يتسلّل إلى الحي اللاتيني وإلى المتاحف ويتأمّل الشمس وهي تُودع نهر السين بين فتيةٍ وفتياتٍ يغرونه برسمٍ سريعٍ لوجهه يُحرِّضونه بأنّ غطاء رأسه (البُوري) يجعله في هيئة فلاسفة عصر التّنوير فينزلق ذهنه إلى توماس هوبس وكتابه (ليفاي ثان)، والسيد هوبس هو أول من أصّل لفكرة العقد الاجتماعي في فلسفة السِّياسة، تبعه جان جاك روسو وجون لوك وغيرهم وعلى عكس هوبس، رجّح أولئك سلطة الناس على صولجان السلاطين. تزوّج وطلق مِراراً من أجناس شتى. ولما بلغ سن الشيوخ عاد إلى القرية يحمل عصاه فقط لا غير. مسكينة قريتنا وسائر قُرانا، ترفد الدنا بشبابٍ في نضارة الورود وجَسَارة الأُسود ثم تلفظهم تلك المَهَاجر القاسية إليها عندما تنتهي صلاحيتهم وحاجتها إليهم فيعودون شيوخاً يحثون الخُطى نحو القُبُور. نعم جاءنا جدي مزيجاً من شيخ صوفي، قانعاً، راضياً بمسيرة حياته ومُتشكِّكاً في ذات الوقت، شكّه يتمدّد في كل اتّجاهٍ. يقضي ليله ذاكراً مُتبتلاً، لكنه يقضي نهاره منطوياً كثير الشك في نوايا الناس جميعاً ولم يكن يُجادل أحداً، إذ لم يكن في المنطقة كلها من يقدر على جداله، فهو مُتمكِّنٌ قوي العارضة، عظيم المُجادلة. والعهد فيمن تصوّف أن تدفعه الثِّقة بالخالق إلى الثقة في بعض مخلوقاته، لكن جدي تخيّر من آداب الأولين ما جعله عياباً يرى في نوال المصالح الضيِّقة مُحرِّكاً لمجمل السلوك الإنساني. جاءنا هكذا غريباً ليس معه أحدٌ، كنت أنا حفيد شقيقه المنصور والوحيد بين الناس جميعاً الذي يَأنس له ويفضي إليه بِدواخله بعيدة الأغوار، فَقد كُنت مُلِّماً بقليلٍ من المَعَارف العَامّة المُستسقاة من المذياع ومن بعض سِجَالات أبنائي الذين يفدون عليّ من البندر في الأعياد ومن بعض سَواقط أنس، جله غث لا نفع فيه، يتداوله رُوّاد دكان حاج الورّاق في أول الليل.
كان جدي عبد الحكيم كثير الترنم بقصيدة للمُتنبي كدت أحفظها من شِدّة ولعه بها ومن كَثرة تَرديده لها، مَطلعها:

لهوى النفوس سريرة لا تُعلَمُ ** عرضاً نظرت وخلت أني أسلمُ
يقول فيها البيت الذي يجري على كُلِّ لسان نال صَاحبه من أذى الإنسان وجُحُوده:
والظلم من شِيم النفوس ** وإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
ثُمّ يفصل:
والناس قد نَبذوا الحِفَاظ ** فمُطلق ينسى الذي يولي وعاف يندم
وكان في إحدى المرات يُردِّد هذا البيت فانتابه غَضَبٌ وكان مُتكئاً فقام وجلس ليقول دون أن يسمي أحداً:
ترى أقواماً نهلوا من نعيم آخرين حتى التخمة ثم تنكّروا لهم وولغوا في أعراضهم دُون حياءٍ. ثم استغفر وأضجع مُجدّداً وكأنّه يواسي نفسه مُتّسقاً مع فلسفته المُتشائمة بالقول: قال المتنبي ذلك قبل ألف عام فتلك دالة أنّ الناس هُم الناس هكذا من قديمٍ.
ويصرف بيت زهير إلى ما يعضد مذهبه رغم أن البيت يحتمل غير ذلك من المَعَاني:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة ** وإن خالها تخفي على الناس تعلم
كأنّما ينزع البيت إلى الخليقة البغيضة في الناس أو هكذا ارتآها جدي بفلسفته المُتشائمة.
ويستعين بالذكر الحكيم في مثل قوله تعالى:
(وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ) (النساء ١٢٨) وقوله (وَمَا أَكْثَر النَّاس وَلَوْ حَرَصْت بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف ١٠٣).

ويتخيّر من علم السِّياسة المَدرسة الواقعية التي تستقي من توماس هوبس والتي ترى الإنسان شريراً أنانياً.. يحتاج إلى السلطة الحاكمة التي تُنظِّم أنانيات الآخرين للصالح العام ولو جاءت غاشمة والتي تنبني عليها الواقعية المُعاصرة بأنّ الحرب هي القاعدة، يتعيّن التحسُّب لها دوماً بالتسلح وبالحذر وأن ظروف السلام هي الاستثناء في الحياة.
ويستعين بأبياتٍ بن الرومي في التّشاؤم وهي وليدة أحدَاث مِنَ الفَوضى والثّورات عظام في بلاد الرافدين وصفها العقاد في ترجمة ابن الرومي بقوله: “وراجت تجارة الارتشاء من العمال (أي الولاة) وعُمّال العُمّال حتى بلغت أقصى ما عساها أن تبلغه في أواخر أيّام الدولة (أي العباسية) فقيل عن الخاقاني (لعلّه كان حاكماً في الكوفة) فيما رواه الفخري أنّه ولى في يوم واحد تسعة عشر ناظراً على الكوفة وقبض من كل واحد منهم رشوة، فإن كان قد بقي لحُسن الظن من ولاة الأمر بقية فهذه السرقات والرشاوى والمُصادرات والنّكَبَات قد أتت على هذه البقية، فَلَم تَدع بينهم إلا عِلاقَات الحذر والمُسَاوَمَة والتّربُّص وفَسَاد الطوية، ولا جرم تبيض الفتنة وتفرخ في بيئة كهذه بين جند يشغبون، وعُمّالٍ يدلسون وعرب يحنقون وعلويين يتحفّزون ورعية تُمزِّقها براثن الرعاة ومُلُوك لا يأمنون على الملك ولا على الحياة. وقد حضر ابن الرومي في زمانه بعض هذه الفِتَن وسمع بما تقدِّمه وترك لنا في شعره في واحدة منها والتي اختلطت فيها الأسباب السياسية والدينية والاجتماعية، فقال يصف ما حل بأهل البصرة على أيدي الثائرين:
كم أغصوا من شاربٍ بشرابٍ ** كم أغصوا من طاعمٍ بطعامٍ
كم ضنين بنفسه رام منجي ** فتلقوا جبينه بالحسام
كم أخ قد رأي أخاه صريعاً ** ترب الخد بين صرعى كرام
كم مفدى في أهله أسلموه ** حين لم يحمه هناك حام
كم أب قد رأي عزيز بنيه ** وهو يعلي بصارم صمصام
كم رضيع هناك قد فطموه ** بشبا السيف قبل حين الفطام
كم فتاةٍ بخاتم الله بكر ** فضحوها جهراً بغير اكتتام”.
وينزلق العزف الحزين إلى استباحة الأعراض فيصوِّر ذلك ابن الرومي بالقول:
كم فتاة مصونة قد سبوها ** بارزاً وجهها بغير لثام
صبحوهم فكابد القوم منهم ** طول يوم كأنّه ألف عام!
يغرب في التشاؤم بهذه الصُّور المُفزعة التي ينحدر إلي سحيق أغوارها الإنسان حتى يشابه السباع في الأدغال قسوةً ووحشيةً، وإذا عظم في نظر الإنسان داء الشر والغلبة، طَرَب لجُرمه، هكذا فعل هولاكو وهو يفتك بالبشر في بغداد كما تفعل الوحوش بصيدها، وكما فعل هتلر بملايين من الناس الأفاعيل يحسب ذلك مرتقى من مراق المجد لا يصل إليه إلا العُظماء من أمثاله فميزان العَظمة عنده طبول وأهازيج ولو كانت على جماجم الأبرياء.
ومع ذلك لم تكن تهز جدي الحادثات الجسام التي تُسفك فيها الدماء وتُنتهك الحُرمات، فتلك عند جدي هي طبائع الأشياء من قديم وهو لا يجتر ما يثبت خُبث الإنسان وأنانيته إلا للتّذكير بها وقد يفزع للدين بأنّ في آخر الزمان يكثر الهرج وهو الموت. فإذا استشعر من تساؤلاتنا الشك في إنسانيته وتحجر عَاطِفته تجاه مُعاناة الضحايا من البُؤساء من أبناء آدم وبناته، انتفض مُغاضباً وربما بكي قائلاً ما عساه أن يفعل في طبائع الأشياء. إنّه يرى حَركة التّاريخ حركة دائرية لا حركة قاصدة نحو الكَمَال بالتّجريب وَتَراكُم الخِبرات، حَركة يَتَداول فيها الخَير والشّـر والجَمال والقُبح والكَمال والنّقص، تَغشى الناس فيها حقبٌ يُغاث فيها الناس ويعصرون فيرتاحون لخير يعم فيها وتَسامح سببه الوفرة التي يجد فيها كل فردٍ نصيباً منها يروِّض النزوع إلى الأثرة والتنافُس المَحموم شيئاً أو قُل يُنظِّمه ويضع له قواعد يتراضى عليها الناس، فتزهو الحياة وتزدهر حتى يظن الناس أنها ترتقي سلم الكمال الإنساني إخاءً وسلاماً. ثم تعقبها عِجَافاً يجف فيها الضرع ويحطوطب الأخضر الزاهي ويصير الزرع هشيماً فيستأسد اللئام على المُعدمين وتنطوي أشرعة التسامُح ويصبح الآخر هو العدو اللدود وهو الحقير الوضيع تعرفه بلونه الكالح ولسانه المُختلف وبالقبلة التي يتّجه إليها في عبادته. ألم تأتِ الثورة الفرنسية قبل أكثر من مائتي عام بشعارات إنسانية بَرّاقة أثلجت صدر كل سوِّي من الناس: الحُرية، الإخاء والمُساواة؟ تَأمّلَ كيف اقتتل فَريقَان فيها فَجراها معاً ضد الملكية المُطلقة، هما اليعاقبة والجيرونديون؟ وكم من الأرواح أُزهقوا تحت المَقَاصِل؟ وكم أُزهقت من الأرواح البريئة منذ ذلك الزمان بسبب المذهب واللون والعقيدة المُختلفة أو الطبقة الفوقية أو الأدنى.
ألم يقل قائلهم:
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ** فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ** لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنّما ** تداول سمع المرء أنمله العشر

حقبة السلام الحالية التي يُسمِّيها الأمريكيون حقبة “السلام الأمريكية أوPax Americana امتدت لبضع وسبعين عاماً منذ تَوقُّف الحَرب العَالميّة الثانية، جَدّدَت الآمال في فضائل التّسامُح والعيش الكريم لكل البشر حتى ظن البعض أنّها نهاية التاريخ وبلوغ الفردوس الأرضي. ولكن سُرعان ما انبعث القديم اللئيم: شعبوية في العالم الأول الذي كان يقود خُطى البشرية إلى عوالم إنسانية فسيحة لا يتمايز فيها الناس إلا بالجهد المبذول لصالح الإنسان؟ وكراهية بغيضة يتمايز فيها الناس بالألوان والأديان والأمكنة كَمَا كانوا على الدوام يفعلون في أزمنةٍ مَضَت بسببها نشبت الحروب وأُزهقت الأرواح! وانبعثت الشعوبية والمَذهبية في العوالم الأخرى الأكثر تخلُّفاً حتى غدا العالم على شفا حرب جديدة مُدمِّرة قد لا تبقي ولا تذر. ألم تتراجع مِسَاحات التّسامُح وقُبُول الآخر في كل بقعة من بقاع العالم؟ أليس ذلك بسبب اتّساع الفَجوة بين الأغنياء والفقراء؟ ألم أقل لكم إنّ السلم المُؤقّت لم يتأسّس على قناعات، بل على وفرة عارضة بدا شبح زوالها يزيل كل ذلك الوهم الرغائبي؟
لم نحر جواباً على تساؤلات الشيخ الفاني، ولم تسعفنا مكنونات التفاؤل عندنا من البوح بكلمةٍ واحدةٍ. هممت بالقول ألا تقع على عواتقنا مسؤولية إطالة سَوانح الخير القَليلة التي ذكرت؟ أليس من العجز أن يخضع الإنسان ويستسلم لهذه الحتميات فلا يقاوم ولا يفعل شيئاً؟ صحيحٌ إنّ الثورات العظيمة في التاريخ لا تُحقِّق كل غاياتها لكنها تضيف ربما إضَافَةً واحدةً لا تتحقّق في أوانها لكنها تظل منارة على الربوة العالية تلهث خلفها ربما أجيال حتى تبلغ ذراها. لقد أبطلت الثورة المجيدة في بريطانيا حق الملوك الإلهي وأكّدت حق الشعب في الحكم عبر مُمثليه في البرلمان وجاءت الثّورة الفرنسية بالحكم الجمهوري، كما عزّزت الثورة الأمريكية الحقوق الأساسية عبر سيادة الدستور على نظام الحكم وفصل السلطات، أما ثورات العالم الفقير فقد حقّقت الاستقلال وطَردت الغُزاة الأجانب وتَصادف بين الفينة والأخرى نَصيباً من النّجاح في هدم الطغيان، لكنها تظل تتكلّس في عصر البطولات ذاك، تستهويها أهازيجه وطُبُوله وتنفق مُكوِّناتها الأعوام ذوات العدد تَتَشاكس وتتعارك بلا انقطاعٍ في نسبة ما تَحَقّق من الانتصار الذي كَانَ لمن من الناس والفصائل. ويَظل الحال البئيس قائماً فيها شاخصاً كرواسي الجبال لا يتغيّر. تشاؤمك يصدق هنا أيها الشيخ الجليل في بعض أجزائه ولا يُؤخذ به على الإجمال ضربة لازب. لكن أوان صَمت الشيخ الصوفي جدي، كان قد أزف فأخذ عصاه ومسبحته الألفية وقال عبارة أثيرة عنده كان دوماً ينهي بها الأحاديث “أصلح الله الحال!” تفوه بها وانصرف..!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.