د. مُحمّد علي عبد الجابر

“نموذج إبراهيم”!

شارك الخبر

في سبعينيات القرن الماضي أتحفتنا الدراما المصرية بمسلسل بعنوان “أولاد آدم” أُوكِلت فيه البطولة للممثل القدير الراحل/ عبد المنعم إبراهيم الذي أدَارَ حِواراً طَويلاً مَليئاً بالحِكَم مع أبنائه الخمسة، الذين كَانُوا إشارة رمزية عالية لكلِّ أبناء آدم في هذه الدنيا, تَعَمّق المسلسل في بحث وإبراز سُلُوك الأبناء ومَدَى الاختلاف بينهم رغم وُحدة الأصل، حيث أنّهم جميعاً من أبٍ واحدٍ وأمٍ واحدةٍ, ومنذ ذلك يَستهويني البَحث في السُّلوك الإنساني, البحث في الجذور ونبش الماضي وفي القناعات وخلفيات التّربية الّتي تَرسم أُسلُوب الحَياة وتَخلق الشّخصية بالكيفية المَاثِلَة, تَعميق المَعرفة في مزاجية هذه الشّخصية وتكوينها الثقافي والنفسي بنزعاته الإنسانية والعَاطفية, العفوية والسجايا التي تكاد تُعد أحياناً معوقة للانفتاح والنهضة والأشواق, مساحات الخجل والخوف والعيب, البحث في سُلُوكيات البشر أصبح ميلاً ورغبةً من خِلال بعض النماذج التي تفرض نفسها علينا كـ(إبراهيم..) وهو صورة من آلاف الصور المَوجودة بمُجتمعنا في إِطَار تبايُن البشر واختلاف مُيُولهم ومشاعرهم وأشواقهم, كل خبراته وتجاربه في هذه الحياة لا تَتَعَدّى دائرة الفلاحة وما يتّصل بها من عمليات تحضير الأرض وإيداع البذور فيها وأنواع الشتول وتخصيب الأرض وريِّها والاهتمام بالمَحصول من مرحلة الإنبات، مُروراً بنموه حتى مرحلة الحصاد النهائية, علاقته بالعالم من حَوله بعض ما يُشاهده في التلفزيون من أخبارٍ وبرامج, ورغم أنّه لم يكن يدرك ولا يَستوعب ما يُقال في هذا الجهاز الحَسّاس، إلا أنّه يحشِد دواخله بصورٍ غايةً في الجمال تَطل من خلال البرامج, وبعض الأحاديث في السياسة والمُجتمع والاقتصاد التي يلتقطها من المثقفين في القرية، وذلك بارتياده منتدياتهم بصورة دائمة, ولأنّني كُنت قريباً منه دائماً، كُنت ألحظ أنّ تلك المُشاهدات وأحاديث المُثقّفين تحمله إلى رفض واقعه وتخلِق فيه إحساساً كاذباً أنّ واقعه يجب أن يكون أجمل من هذا الذي يَعيشه, كُل ذلك نَمَا فيه الرغبة مع مُرور الأيام بقُدرته في الانطلاق في هذه العوالم والانغماس فيها, ورَغم أنّه لا يَحمل أيِّ مُؤهّلات علميةٍ أو عمليةٍ ويَفتقر لأيّة مَهارةٍ يدويةٍ أو حرفية، فَضْلاً عن أنه لا يجيد القراءة والكتابة وأصبحت هذه الأمية الأبجدية والحضارية تُلازمه في حِلِّه وتِرحاله, رغم كل ذلك يدفعه عنادٌ غريبٌ تجاه تحقيق رغباته التي لا تقف على حقائق ويصر عليها بصُورةٍ مُحيِّرةٍ, يبقى أمام رغباته كالحجر “مُصمِّماً” على رأيه لا يقبل النِقاش والرأي الآخر، وتجده مُنفعلاً حتى يُدْخِل الرغبة وتحقيقها في دائرة الكرامة، يعتبر كل مَنَ يقترب إليه لإثنائه عن فكرته عدوّاً له ولا يُريد له الخير، وهذا ما يجعل مُعظم معارفه القريبين منه رحماً وصداقةً الابتعاد عنه وتحاشي مُناقشته في رغباته خوفاً من العداوة والجفوة.
تَحَرّكَت فيه تلك الصور الجميلة المخزونة في دواخله مرة، وقرّر فجأةً وبدون سابق إنذار أن يطلق حياة الفلاحة ويُهاجر إلى أحد بلاد الدنيا التي تفوح منها رائحة الثراء والجمال, وسُرعان ما اختمرت الفكرة في رأسه فهاجر بالفعل، مشمولاً بدعوات ذاته العنيدة أن يطيب له المقام ثم يعود بعد ذلك لأهله سالماً غانماً, ومرّت به الأيام هناك في مهجره الجديد ثقيلةً تُؤكِّد له أنّ ما يراه من جمالٍ واتقانٍ وسُهُولة حياة لم يكن بناه بالأماني، بل بجهد قام على عمل مُضنٍ, فقرّر بمحض إرادته العودة الى أهله وعشيرته لعلّه يدرك ما فاته من مجدٍ وتعويضه في أبنائه, وبدأ (إبراهيم..) ينشر فكرة جديده قوامها:
مَنَ طَلَـبَ العُـلا بغَيـر كَدِ سيدركه متى شَاب الغُراب
مَنَ يتَجنَب في الحياة زِحَامَها فليَس له في ساحة المَجَدِ مشرع

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.