أبلغني العزيز مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، رئيس حركة جيش تحرير السودان فجر اليوم بنبأ وفاة عمته الوالدة الحاجه المغفور لها (تيه مناوي دومي) والتي فاضت روحها الطاهرة مساء أمس الموافق 20 أكتوبر وفي معسكر زمزم في مدينة الفاشر بعد رحلة عطاء عامرة إمتدت لحوالي 106 عاماً قضتها في جليل الاعمال وصالحها.
هيأ لي إبن شقيقها مني أركو مناوي فرصة الجلوس معها بعد أن قدم لي خلفيه عنها بإعتبارها آخر البنات والابناء لوالدها مناوي دومي.
وإحقاقاً للحق فقد ذكر لي أسماءً كثيرة في دارفور يحملون ذكريات وتواريخ غاية في الاهمية مطالباً الجلوس معهم لتوثيقها منهم، وقد كانوا يعملون في وظائف ومناطق مختلفه منهم معلموه وأساتذته وآخرين وأخريات.
جلست معها لرحلة توثيقيه إمدت لثلاث جلسات دامت لساعات طويلة، سردت فيها تاريخ أسرتها الممتد وماسمعت من روايات وقصص على لسان جداتها واجدادها ومن هم حولها انذاك، وكيف كانت طفولتها وقريناتها وأقرانها، وكيف كان يلعبون وبعد ان تجاوزوا العاشرة من أعمارهم كيف كانوا يسرحون بالماشيه ويقضون أياماً بلياليها بعيداً عن قريتهم وهم صبية وصبايا القريه وكان كل واحد منهم ومنهن بمثابة الشقيق والشقيقه بالنسبه للآخر، في وقت كانت فيها الحياة سهله والمطالب بسيطة والمجتمعات نقيه ومتعافيه وملتحمه ببعضها ((قبل أن يحل علينا المشوهون من يزعمون أنهم ظل الله في الارض ومبعوثو السماء ويدخلون على المجتمع السوداني مصطلحاتهم المشوهه، كالشروع في……، وكان المجتمع يعيش بقيمه وموروثاته السمحاء بعيداً عن تكلف وإصطناع لتدين زائف وسرقات ونهب ومراباة وبنوك ظاهرها اسلامي وداخلها إجرامي وشيوخ آخر زمان ودين شكلي عماده لحى ممتدة وكروش منتفخه بأموال السحت، وكانت كالبنيان الواحد متراصه ومتكاتفه تكاتفاً حقيقياً بلازيف ولا رياء.لعن الله الكيزان أينما حلوا وإرتحلوا.)) مابين قوسين من عندي.
كانت أولى مقابلاتي معها في منزل الاخ حسين أركو مناوي حيث تجمع كل أفراد الاسرة في لقاء أسري حاشد لإستقبال إبنهم مني أركو مناوي والذي قدمني لها وإنصرف لإلقاء التحية والسلام والتفقد فما كان منها إلا وان قلدتني برفق وحنية الام الرؤوم وقالت لي كلاما لم أفهمه وعندما تمت ترجمته لي كان (خليكُم اخوان وخلي بالك من أخوك ده ومرحباً بكما في الفاشر وكنا ننتظر مثل هذا اليوم ونحمد الله أن حقق لنا ذلك ونحن أحياء).
كان لوقع كلماتها البسيطة المعبرة تحفيزاً لي فقد كانت كلمات الوالدة لإبنها. عندها شعرت أنني أمام إنسانه عظيمه وعملاقه وقد عبرت عن دواخلها بجمله بسيطه ومدلولاتها عميقه.
لبعض الشواغل لم أتمكن من زيارتها بسرعه وبعد قرابة الشهر زرتها في منزلها وفي معيتها ابنتها وأختي هنوي، وعندما زرتها كانت تعاني من وعكه صحية، وقبل أن أصافحها حاولت اختبار ذاكرتها ونادت بإسمي وأصرت في أن تنهض لتسلم عليّ وكان أن فعلت وعندما حاولت الانسحاب وفي رفقتي المصور الرفيع ويام وبقية الشباب أصرت إصراراً شديداً ورفضت السماح لنا بالمغادرة مالم نقم بتسجيل حلقه أولى وقد فعلنا ذلك وإمتد الزمن لأكثر من ساعتين وهي مُصرة على الجلوس في عنقريبها متكئه بعض الشيء بظهرها على الحائط، وكلما مر بعض الوقت تخاطب من هم حولها بلغة لا أفهمها، فيحضرون الشاي والقهوة والماء وكل صنوف الإكرام.
حاولت إختبار ذاكرتها وحينها كانت في عامها الرابع بعد المئه، ذكرت أسماء إخواتها وأخوانها وفقاً للتسلسل الزمني من الاكبر للأصغر، وبلغة تحدٍ واضحه قالت هن اخواتي ولهن ولهم الرحمه من الله وانا آخر واحدة على قيد الحياة، خاطرة، كدا، خديجة، ست الدور،كنداي، واخواني هم أركو، شمو، جقوي، جمعه، جالي، عيسى وحسين بل مضت أكثر من ذلك عندما سردت أسماء أبنائهم وبناتهم.
تحدثت عن فترات تاريخية غير مدونة في تاريخ منطقتها وإقليم دارفور بشكل عام وأوردت سيراً ومعلومات غايه في الأهمية ولساعات طويله تجاوزت العشر. ستجد هذه السيرة يوماً ما طريقها للنشر والمعرفة.
كان يتحلق حولها أحفادها وأحفاد أحفادها، وهي سعيدة بذلك، كانت كلما زرناها تسأل عن (الحكومة)، إبن شقيقها وترفع يديها للسماء داعيةً له وعندما أسألها ماهي دعوتك تجيء الاجابه (أتمنى له من الله أن يوفقه ومن معه) وهي جالسة في راكوبة بسيطة وعنقريب عادي يحمل عبق التاريخ والاصالة، حفيداتها جميعهن يحاصرونك بإحكام شديد الأكل جاهز، لازم تشربوا، قهوه ولا شاي ولا بارد، البيت بيت أسرة عريقه وكبيرة والابواب مشرعه وقلوب سكانه مفتوحة، وبلا شك هم من رضعوا من ثدي هذه المرأة الشامخه الطيبه البسيطة والتي كان ثمرة زواجها من المرحوم شريف آدم جابر له المغفرة كل من أحمد وهنوي وعطر وبخيته، وأرسل لكم صادقتي مواساتي وعزائي، ولاختنا دكتور حواء جابر عثمان دومي التي تولت أمر الترجمه بإقتدار كامل وصبر وجلد وللاعزاء يام ويعقوب دومي ولجميع أفراد أسرتها الكبيرة الممتدة حار تعازيي ومواساتي.
ولتغشى قبر الوالده تيه مناوي دومي الشآبيب النديه.